شهدت النهضة الإسلامية خلال القرون الثلاثة الماضية سؤالاً مركزياً حول من يمثل الدور الأكبر والأوقع في الإصلاح: الفرد، أم الواقع؟ هل الواقع ينتج الفرد الصالح أم الفرد الصالح هو الذي يصلح الواقع المضطرب وينهض به؟
السؤال طبعاً لم يكن مطروحاً بنصه المباشر هكذا في دنيا الإصلاح وينتظر الناس تحديد إجابته لينطلقوا بعدها في اتجاه غايتهم.. لم يحدث هذا بالطبع.. لكنها التجربة العريضة للحركات الإصلاحية والتي أكسبتها ثراءً كبيراً في طريقها الطويل.. ثراء في الأفكار وثراء في الرجال والأهم ثراء في الخبرة.. إذا جاز لنا أن نفصل الخبرة عن أصحابها وننظر لها بتجرد.
ستكون صدمة المواجهة مع الغرب في القرن التاسع عشر أقسى وأصعب من الحروب الصليبية (9 غزوات) في أواخر القرن الحادي عشر التي كانت غربية أيضاً ولكنها كانت في زمن يختلف كلياً في كل شيء.. وأصعب وأقسى أيضاً من صدمة المغول في القرن الـثالث عشر.
كانت تلك الحروب، حروب دماء وتدمير وهلاك لا أكثر، مع ما في ذلك من خراب شامل في العمران وهو غير قليل..
فيما إذن كانت قسوتها وصعوبتها؟
قسوتها وصعوبتها أنها جعلت العقول والمشاعر والأفكار ميداناً فسيحاً للمعركة وهو فيما اتضح لنا بعدها.. أنه أخطر ميادين الحروب على الإطلاق.. وقد كان.
تقول الحكاية: إن نقطة التحول المحورية في حياته.. حدثت عام 1899م وذلك حين سمع بوقفة وزير المستعمرات البريطانية ورئيس الوزراء فيما بعد وليم جلادستون (1809-1898م) في مجلس العموم البريطاني يخاطب النواب وفي يده نسخه من القرآن الكريم قائلاً: “ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، فلا بد من إزالته من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به”.
غضب صاحبنا لذلك غضباً شديداً وقرر أن يتفرغ لدراسة العلوم القرآنية وعكف على هذه الدراسة ثماني سنوات ثم قال: “لأبرهنن للعالم أن القرآن شمس معنوية.. لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها”.
إنه بديع الزمان سعيد النورسي (1877 – 1960م) الذي يقال: إنه سمي ببديع الزمان لنبوغه في الجغرافيا والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء والفلسفة والتاريخ، كان كردياً من بلدة تليس شرق الأناضول، بدأ نشاطه عام 1892م متأثراً بمدرستين كبيرتين من مدارس الإصلاح جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897م)، والسنوسية (1787- 1859م).
إحدى المدرستين فكرية سياسية بامتياز، والثانية روحية تربوية بالأساس.. وسنرى كيف سيستفيد النورسي من الإثنين ثم إلى أيهما ينتهي اختياره.
في عام 1907م اتجه إلى إسطنبول وقدم طلباً إلى السلطان عبدالحميد الثاني (1842 – 1918م) لفتح مدارس لتدريس الدين إلى جانب العلوم الطبيعية والرياضية (على شاكلة الأزهر الشريف في مصر)، وطلب من السلطان أيضاً فيما طلب أن يراعى “مقام الخلافة”، وأن يقوم بواجبها تجاه المسلمين في كل أنحاء العالم.
من اللافت للنظر في مسار حركة النورسي أنه كان قريب الصلة من رجال جمعية الاتحاد والترقي في بدايتهم لأفكارهم المتقدمة عن الحرية والشورى ورفض الاستبداد، إلا أنه فوجئ بانحرافاتهم الأخلاقية وإمعانهم في السلوك التغريبي بدعوى التحضر والمدنية فابتعد عنهم فوراً.
الملمح المهم في سيرته وتجربته كفكرة حية ما زالت تحمل قبسها وعطاءاتها، أننا سنراه يعتزل “العمل السياسي” ويتفرغ للتأمل والتدريس.. وما كان لمثل كمال أتاتورك أن يغفل عن همة رجل عظيم كبديع الزمان فيترصده بالنفي والتتبع.
فينفى إلى بلدة بارلا (جنوب غرب الأناضول) لمدة ثماني سنوات ونصف السنة.. لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير..
فكان أن أصدر إحدى أهم رايات وعلامات الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث “رسائل النور”، وتتلقف تركيا كلها هذه الرسائل وتتعهدها بالنشر والتوزيع.. فيُنفى إلى مدينة أخرى (إسبارطة) في وسط تركيا، ولكنه استمر في التأليف والنشر ويتزايد حوله التلاميذ والمريدون فيُسجن، ثم يخرج من السجن وينفى إلى مدينه ثالثة (قسطموني)، ثم تلفق له تهمه محاولة قلب نظام الحكم، ويحال إلى القضاء العادي فيصدر حكماً بتبرئته من كل تهمه، لكن النظام يواصل سجنه حتى عام 1949م.
حين يأتي عام 1950م على تركيا تكون الدنيا قد تغيرت كثيراً فيسمح بتكوين الأحزاب ويفوز الحزب الديمقراطي المعارض، وتهدأ كثيراً الحرب على الدين، وتطبع “رسائل النور” ويسمح للشيخ بالتدريس تحت الرقابة، ثم يجري عليه ما يجري على كل البشر وينتقل إلى رحاب الله، ويدفن في مدينه أورفة (جنوب شرق تركيا).
أدرك الشيخ سعيد يرحمه الله أن الأمة أصيبت في مقتل بابتعادها وإبعادها عن دينها؛ فركز على إعادة الإيمان بالله الواحد الأحد مالك كل شيء ومليكة قيوم السماوات والأرض الذي يرجع إليه الأمر كله؛ (فاعبده وتوكل عليه)، وهي الحقيقة التي تستقر في الوعي والوجدان، فتجعل الإنسان المستخلف والمستأمن على الأرض مدركاً لوجوده ومصيره، وأنه يحيا على هذه الأرض متأملاً لقوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم)، (وأن الله بالناس رؤوف رحيم).
وأنه سبحانه لا يعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض فهو عليم قدير.
وأنه سبحانه العزيز الحكيم أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً.
وأنه سبحانه لم يخلق السماء والأرض لعباً بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
وأنه سبحانه يثيب من يجتنب الخطايا والكبائر بالعفو عن سيئاته ولممه ويدخله مدخلاً كريماً.
هذا الإنسان المستخلف المستأمن على أمانة كبرى، يعلم أن مكانته في سلسلة الخلق العظمى مكانة كبيرة، ذلك أن الله سبحانه منحه العقل والشعور وأسجد له الملائكة، فيحيا على الأرض مرفوع الرأس والهامة؛ إذ هو يعبد رب عظيم له ملك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير.
كل هذه المعاني وكثير غيرها جعلت جلاد ستون يصرخ أن لا بد من إبعاد المسلمين عن القرآن، وهي الصرخة التي نبهت سعيد النورسي إلى أهمية أن تنير القلوب بنور القرآن أولاً وقبل كل شيء.
الآن نحن في أشد أوقاتنا احتياجاً إلى البناء التربوي والروحي في شخصية “الإنسان”، بناء نؤسس له عميقاً، كي يصعد عالياً راسخاً، ليس فقط لأن التجارب الأخرى لم تفض إلى ما كان يُؤمل منها، وليس فقط لأن الواقع العام قد لا يسمح بغير ذلك، ولكن وهو الأهم لأن العالم كله يحتاج هذا الإنسان.. إنسان المعنى والقيمة والغاية.