بالنسبة لعشاق كرة القدم فإن كأس العالم وتحديدا مباراة النهائي هي الذروة التي ينتظرونها كل أربعة أعوام، ولكن هل تخيلت للحظة أن تكون مباراة النهائي بين فريقيين أحدهما من البشر والآخر من الروبوتات؟ قد يكون موعد هذه المباراة بعيد نسبيا ونحن نقترب من نهاية 2021، لكن أصحاب وأنصار الروبوتات يؤكدون أنهم سيحققون هدفهم هذا بعد ثلاثة عقود من الآن وتحديدا في 2050.
كثيرون لا يعلمون أن هناك بالفعل كأس عالم للروبوتات يسمى RoboCup، ينظم من قبل مجموعة من علماء الروبوتات الذين حددوا لأنفسهم هدفا طموحا بأن يلعب فريقهم في مواجهة الفائز بكأس العالم في منتصف القرن الـ21.
دعونا من الرياضة، فالذكاء الاصطناعي يأخذك إلى آفاق جديدة وربما سيكون محاميك في المستقبل، الذي سيمثلك قانونيا رجلا آليا يرتدي عباءة المحامي، استعد من الآن لتقبل ذلك، فبرامج الكمبيوتر التي يمكنها التحدث والتفكير من تلقاء نفسها يتم استخدامها بشكل متزايد من قبل القانونيين، بل إنه في لحظة كتابة هذا التقرير يوجد تطبيق على الإنترنت يعرف بأنه “أول محامي روبوت في العالم” يعمل على مساعدة مستخدميه على صياغة الخطابات القانونية. وتخبر برنامج الدردشة الآلية هذا بطبيعة المشكلة الخاصة بك، سواء كانت متعلقة بنزاع قائم بينك وبين مالك العقار الذي تستأجره أو خلاف حول ملكية قطع أرض، أو غيرها من المشكلات القانونية، وسيقترح عليك ما يعتقد أنه أفضل لغة قانونية يمكن استخدامها.
وحتى لا يظن بي بعض المحامين ظن السوء، أننا نروج إلى قرب اندثار زمان “المحامي البشري” لمصلحة عصر “المحامي الآلي”، فربما تكون هناك قطاعات متعددة متضررة من تلك الروبوتات، وقد يرسخ التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي وصناعة الروبوتات الفجوة الراهنة والمتزايدة بين الدول المتقدمة والنامية أو الفقيرة، ويؤدي إلى زيادة هائلة في مستويات البطالة حتى في التخصصات التي تعد في الوقت الحالي نادرة.
فالآثار المترتبة على وجود دول قليلة متحكمة في أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي عميقة ومقلقة للغاية، ويمكن أن تصبح تلك الدول المتقدمة وشركاتها الحراس الفعليين لتقنية الذكاء الاصطناعي، عبر تخصيص موارد أكبر لتطوير هذا النوع من التكنولوجيا، ومن المؤكد أيضا أن الشركات الرائدة في هذه الدول ستخصص كل طاقتها للحفاظ على ريادتها على الساحة الاقتصادية الدولية، ما يمنحها ميزة تنافسية كبيرة على منافسيها.
ويصف لـ”الاقتصادية” الدكتور أم. راسل أستاذ البرمجيات في جامعة لندن الوضع المستقبلي للعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والاقتصاد قائلا “النموذج الاقتصادي المألوف لقطب اقتصادي واحد مهيمن وتكنولوجيا أولية يتم استبداله حاليا وعبر الذكاء الاصطناعي بنظام متعدد الأقطاب ولكن عملية الاستبدال تتم ببطء، إذ يجب على الشركات أن تتعامل بشكل متزايد مع عدد كبير من النماذج والتقنيات، فقد أصبحت طرق البيانات السريعة هي طرق الشحن الجديدة، ويحل التخزين السحابي تدريجيا محل حاويات الشحن والمستودعات، وبالمثل تحل اللامركزية والرقمنة محل الوسائل التقليدية للتواصل والتعامل”.
ويضيف “أصبحت المنصات عبر الإنترنت أكثر أهمية من المنتجات المادية، والتحدي الأكبر الذي يواجه الاقتصاد العالمي على المدى القريب هو كيفية الانتقال من النموذج الاقتصادي الحالي المدفوع بالوسائل التقليدية للتصنيع إلى نموذج جديد مدفوع بالإنجاز التكنولوجي الذي كان حتى وقت قريب مجرد خيال علمي”.
هذا التحول الاقتصادي الذي يشير الخبراء باعتباره اتجاها عالميا يثير تساؤلات جادة حول الروابط بين الثورة التكنولوجية والاتجاهات الدولية من قبيل التغييرات الديموغرافية مثل الشيخوخة والهجرة والتغير المناخي والتنمية المستدامة.
الدكتورة مارجريت سنيل أستاذة الدراسات المستقبلية في جامعة أكسفورد ترى أن التأثير الذي سيخلفه الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد يصعب الجزم به بشكل دقيق، حتى عندما تبدأ بعض الإجابات في الظهور في الأعوام المقبلة وذلك لأن الذكاء الاصطناعي لا يتسم بالثبات وإنما يغير شكله ويتكيف مع محيطه.
وتوضح لـ”الاقتصادية” “يمكنا القول إن لدينا تصورات أولية بشأن بعض الجوانب، فالمستقبل سيشهد نتيجة للذكاء الاصطناعي مزيدا من التركيز في القوة والموارد والتكنولوجيا أكثر مما هي عليه الآن، لكن التحدي الأكبر سيكمن في علاقة الذكاء الاصطناعي أو الروبوتات بسوق العمل، ووجهة النظر السائدة حتى الآن أن الذكاء الاصطناعي سيستمر في إفادة العمال ذوي المهارات العالية بمنحهم درجة أكبر من المرونة والإبداع ومهارات حل المعضلات الحادة، ولكن بالتأكيد فإن الروبوتات يمكن أن تحل بشكل متزايد محل المتعلمين وذوي التعليم العالي والمهنيين المهرة مثل الأطباء والمهندسين المعماريين وحتى مبرمجي الكومبيوتر”.
لكن وجهة النظر تلك بات محل تساؤل إثر دراسة نشرتها مؤسسة بروكينجز تشير إلى أن أصحاب المهن “الرفيعة” قد يكونون أول المتضررين من انتشار الذكاء الاصطناعي، وقد بنيت تلك الدراسة عبر بحث آلاف من براءات اختراعات الذكاء الاصطناعي وطبيعة الوظائف التي تقوم بها، لتستخلص أن العاملين المتعلمين وذوي الأجور الجيدة قد يتأثرون أكثر بانتشار الذكاء الاصطناعي.
فوجهة النظر السائدة حاليا تبنى على أساس أن الروبوتات والبرمجيات ستنال من العمل البدني والوظائف الروتينية، ولكن هذا يخالف الواقع حيث إن الحاصلين على الشهادة الجامعية أكثر عرضة للتأثر سلبا بالذكاء الاصطناعي بمعدل خمس مرات أكثر من الحاصلين على شهادة ثانوية فقط، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن الذكاء الاصطناعي قوي جدا في إكمال المهام التي تتطلب التخطيط والتفكير وحل المشكلات والتنبؤ وهي مهارات تلقي أعباءها غالبا على أصحاب المهارات العالية.
مع هذا يربط الخبراء بين قضيتين تتعلقان بالذكاء الاصطناعي ومستقبل سوق العمل، القضية الأولى ترتبط بالأرقام المطلقة حيث تحل الروبوتات محل البشر في سوق العمل، فوفقا لتقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي فإنه سيتم استبدال 85 مليون وظيفة 2025 عبر آلات تعمل بالذكاء الاصطناعي، ولا شك أن هذا الرقم هائل عندما يكون عدد العاطلين عن العمل في الوقت الراهن 220.47 مليون شخص، وسط توقعات بأن ينخفض هذا العدد إلى 205 العام المقبل، لكن في المقابل سيتم إنشاء 97 مليون وظيفة جديدة بحلول 2025 بسبب الذكاء
الاصطناعي. ما يعني أن الذكاء الاصطناعي سيحل محل بعض الوظائف ولكن البعض الآخر سيظل موجودا أو ستتم إعادة تعريفه أو تغيير طبيعته الوظيفية أو سيتم إنشاء وظائف جديدة بفضل الذكاء الاصطناعي، والجانب الآخر من وجهة نظر اشلي روبنسون الباحثة في علم الاقتصاد الاجتماعي يرتبط بما تصفه بالطبيعة الانتقالية للاقتصاد المعاصر ومجموعة المفاهيم التقليدية السائدة في سوق العمل.
وتقول لـ”الاقتصادية : “ترتبط كل مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي بمجموعة من المهن التي تحظى بتقدير المجتمع لتصبح على سلم التفضيل الاجتماعي، فمثلا في الاقتصاد الحديث مهن مثل الطب أو الهندسة بفروعها المتعددة أو الأكاديميين تعد مهن ذات مرتبة اجتماعية مرتفعة، وإخراج تلك المهن من المشهد الاجتماعي “البشري” ليحل محلها روبوتات يسبب للبعض مخاوف نفسية، ولكنه لا يؤثر سلبا في حقيقية الأمر في الواقع الاقتصادي، لأن تلك الوظائف ستستمر نظرا لأهميتها للإنسان والمجتمعات ومساهمتها الاقتصادية، ولكن ما سيحدث هو ما يمكن وصفه بإعادة ترتيب في الأهمية المجتمعية للوظائف، إذا يمكن أن نشاهد تقدم مبرمج الروبوتات ليحتل قمة الهرم الوظيفي المجتمعي، يليه على سبيل المثال فني إصلاح روبوتات”.
لكن وجهات النظر تلك لا تزيل أو تخفف مخاوف الاقتصاديين التقليدين مما يصفونه بأجواء سلبية ستواجهها سوق العمل نتيجة التقدم التدريجي والمتواصل للذكاء الاصطناعي، يستندون في ذلك إلى مسح أجرته شركة BMI أشار إلى أن أكثر من 120 مليون عامل على مستوى العالم سيحتاجون إلى إعادة تدريب في الأعوام الثلاثة المقبلة بسبب الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الوظائف، وأن جيل الألفية سيغير وظائفه 17 مرة، نتيجة المنافسة الدائمة مع الذكاء الاصطناعي، ما يوجد حالة من عدم اليقين في سوق العمل الدولية.
ما يمكن الإشارة إليه هنا أنه من الصعب في الوقت الحالي تقييم تأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل بشكل قاطع، فطبيعة الذكاء الاصطناعي وتفاصيله وانعكاساته لا تزال جديدة، وذلك على الرغم من أنه يتم تطبيقه في جميع الصناعات تقريبا، وربما ذلك ما يزيد الوضع تعقيدا، فلا يزال يغيب اتفاق عام على المهام الموكلة إليه، ومن ثم تأثيره في العمالة، لكن ما نعرفه في الوقت الحالي أن طبيعة سوق العمل ستتغير، وأن اضطراب المراحل الانتقالية واقع لا محالة في قطاعات الاقتصاد، ما يستدعي التحضير من الآن لهذا التغيير، فعند مرحلة ما قد يواجه فريق الروبوتات فريق البشر الفائز بكأس العالم، وعلينا أن نكون مستعدين لتلك المباراة التي من الصعب التكهن بنتائجها حاليا.