شتان بين لحظة الوداع وأحلام البدايات، فأكثر رفقاء الدرب تفاؤلا، بل حتى نفسك التي بين جنبيك، وأنتم تقاسون معا نضج الفكرة والتضحيات في سبيلها لم تكن تتخيل أن البوسنة اليوغسلافية التي كان مجرد دخول المسجد فيها أمرا مريبا، ستمتلئ أزقتها يوما بالأطفال يزينون الكتاتيب ومساجدها يعمرها الشباب، أو تمت أسلمتها كما أراد علي عزت بيجوفيتش.
لحظة الوداع
في الـ19 من أكتوبر عام 2003م، ودعت البوسنة مفكرها وفيلسوفها ورئيسها المجاهد علي عزت بيجوفيتش الذي كان يرقد في المستشفى الجامعي بالعاصمة سراييفو، ليُسدل الستار بحكم لحظة الوداع، لكن لصاحب هذه القصة سيرة ممتدة عمرها عقود من النضال والتضحية والسجن أيضا، فدعني أقص عليك الحكاية من البداية.
كما أنه في صباه كان يرتحل بين الأفكار وصولا إلى النضج، ارتحلت عائلته المسلمة في أواخر القرن 19 من بلجراد عاصمة صربيا إلى قرية “شاماتس” بالبوسنة بعد رحيل العثمانيين عن هذه المناطق، وفي البوسنة تستقبل العائلة مولودها الجديد علي عزت بيجوفيتش في 8 أغسطس 1925م، وهو تكبره شقيقتين من الإناث، ويصغره أخ وأخت، ويكبرهم جميعا شقيقان من زوجة أبيهم التي توفيت، ليتزوج أبوه بوالدته عام 1921م.
النشأة الإسلامية
قبل أن يتم السادسة تذهب به العائلة إلى الكُتّاب، ليتمكن في خلال شهور قليلة من تعلم قراءة القرآن، وكانت الأسرة تحرص على أدائه الصلوات، حتى كان يذهب لأداء صلاة الفجر في مسجد “حجيسكا” وهو لا يزال صغيرا، ومع صلاة الصبح التي كان يختتمها الإمام دائما بصورة الرحمن، ورحلة العودة من المسجد، كانت تتولد لديه أفكار من الصغر متعلقة بالإسلام، حتى أن فكرة كتابه الشهير “الإسلام بين الشرق والغرب” تولدت في هذه الفترة، وإن كان قد خط مسودته لاحقا.
بيجوفيتش حوّل الإسلام من ميراث عن العائلة إلى حالة فكرية معيشية
ومع الزاد الروحي كانت حصيلة بيجوفيتش من القراءة تزداد إذ كان يقرأ في كل المجالات ويطلع على الفلسفات ومدارسها وأفكارها، وما بين تهميش الإسلام ومساعي إخفائه بل وتذويبه في مقابل تضخم الشيوعية التي كانت البيئة خصبة لها آنذاك، كان صاحبنا على مفترق طرق ولابد من الاختيار، فهل يا ترى الإسلام الذي ورثه وصار جامدا في بلاده مجرد طقوس بلا جوهر، أم الشيوعية الصاخبة؟، وبصعوبة الاختيار تكون عظم النتائج، فيرفض بيجوفيتش الشيوعية ويتمرد على ذلك الإسلام الطقوسي الذي ورثه.
وكما يقول في مذكراته، بل أعاد إنبات عقيدته مجددا وحول الإسلام من ميراث عن العائلة إلى حالة فكرية معيشية قائمة على التوصل للحقائق بإعمال العقل، وأصبح الإسلام بالنسبة إليه دينا جديدا اعتنقه عن قناعة وفهم ولم يفقده بعد ذلك أبدا حتى سخر له كل حياته.
الشباب المسلم
هنا هو في ثورة شبابه، يتألم لحال المسلمين شبه المستسلم للأمر الواقع الذين يضيق الخناق يوما بعد يوم عليهم ويغيب هويتهم، ولا يرضيه واقع المشايخ والعلماء الذين يبدو أنهم يتماهون مع الواقع بعكس حاله يميل إلى الثورة بل المغامرة، وهنا تظهر “جمعية الشباب المسلم” التي تأسست من أجل الحفاظ على الإسلام في هذه البقعة، على يد طلاب في الثانوية، لتحرك المياه الراكدة في واقع المسلمين وينضم إليها بيجوفيتش ويصبح من أنشط أعضائها.
مثلت جمعية الشباب المسلم الباب الذي يمكنه من خلاله بذل طاقته في خدمة الإسلام، لاسيما وأنها في رأيه قدمت أفكارا توافقت مع ميوله، وقدمت طرحا يوضح العلاقة بين الشكل والجوهر للإسلام بخلاف ما كان معتادا في الكتاتيب آنذاك، وهو ما ذكره في كتابه “سيرة ذاتيّة وأسئلة لا مفرّ منها”.
في عام 1941م انضوت جمعية الشباب المسلم تحت راية جمعية العلماء “الهداية” كفرع شبابي لها، والتي كان يرأسها الشيخ محمد هانجيتش الذي درس في الأزهر، لكن الانضمام لجمعية العلماء لم يكن يروق لبيجوفيتش حتى أنه قلص نشاطه، إلا أن التعطش للإسلام فتح الباب واسعا لانضمام كثير من الشباب إلى جمعية الشباب المسلم، التي اتسع نشاطها وحضورها في أوساط الشباب بالمدارس والجامعات في البوسنة بل وحتى في زاغرب.
الشيخ محمد هانجيتش
آنذاك انتهت الحرب العالمية وانتصر “تيتو” وأعلن يوغسلافيا الاشتراكية، وعاد بيجوفيتش إلى سراييفو قادما من قرية شاماتس، ويعيد الصلة مع الشباب المسلم، بالتزامن مع هذا أراد الشيوعيون تشكيل جمعية “بريبورود” بمعنى الصحوة عام 1945م، فوقف ضدها بيجوفيتش ورفاقه، ليتم اعتقاله في ذات اليوم مساء، لكن أفرج عنها سريعا.
الإفراج السريع عنه وزملائه، جعلهم يظنون أن الأمر سهلا، فانطلقوا في أنشطتهم بحماس أكبر، لكنهم في نفس الوقت كانوا تحت المراقبة، وهو ما جعلهم ضحية الاعتقال مجددا في مارس 1946م، هو و14 من رفاقه، حكم عليه بالسجن 3 سنوات.
الدراسة والزواج
نحن الآن في عام 1949م بيجوفيتش يكمل عامه الـ24، حان وقت الزواج والعمل، يتزوج بزوجته “خالدة” ويعمل بعيدا هناك في الجبل الأسود خارج ساحة الصراع، وينتسب للجامعة ليدرس تخصص الزراعة والغابات، ثم ينسحب منه وينتهي من دراسة ليسانس القانون في سنتين ونصف، وأنجبا ابنتيهما ليلى وسابينا وابنهما باكر.
السبب هنا في دراسة القانون والتخلي عن الزراعة، أن القانون يجعلك داخل الحراك السياسي والقانوني مرتبطا بالمدينة ومركز القرار، أما مجال الزراعة فيربطك بالغابات والمزارع خارج المدينة وبالتالي خارج الحراك السياسي، وهذا يكشف عكس ما قد يُظن أن بيجوفيتش عزف عن فكرته، بل كل ما في الأمر أن الرجل يعد العدة لا أكثر.
العودة
يرجع بيجوفيتش مجددا إلى سراييفو ويعيد التواصل مع جمعية الشباب المسلم، ويستعيد نشاطه، ويتعرف على د. الفاتح علي حسنين ذلك الطالب الذي جاء من السودان لدراسة الطب في يوغسلافيا، وتبدأ مرحلة العمل مجددا، ويستفيد الشباب الطامح في التغيير من شيوعية تيتو التي تتيح ملكية فردية محدودة، ويتحركون في ترجمة كتب إسلامية حركية وصناعة حالة من أسلمة المجتمع المسلم ظهرت واضحة في المساجد وتبادل أجزاء من الكتب بين الشباب، فوجدت حالة يمكن اعتبارها صحوة إسلامية.
بيجوفيتش ود. الفاتح علي حسنين
البيان الإسلامي
ألف بيجوفيتش بمساعدة زملاء النضال كتاب “البيان الإسلامي” الذي جاء ردًا على “البيان الشيوعي” وعنونه بيجوفيتش بكلمته الشهيرة “لأسلمة المسلمين” وفكرة الكتاب تدور حول أهمية العودة للإسلام الصحيح فهو وحده الذي بمقدوره إعادة إحياء المسلمين وجعلهم أكثر قدرة على ممارسة دور فعال.
السجن مجددا
نشاط بيجوفيتش ورفاقه لم يعد خافيا على أحد، ينظر إليه من هم في المعسكر الشيوعي باعتباره خطرا يهدد بصحوة إسلامية، وهو ما لابد من وقفه، فكان الاعتقال مجددا في 23 مارس 1983م، وكانت المحاكمة الشهيرة التي حكم على بيجوفيتش فيها بالسجن 14 عامًا وعلى زملائه بمدد متفاوتة.
لكن هذه المحاكمة وهذه العقوبة كانت بمثابة الباب الذي يدخل منه بيجوفيتش ورفاقه مجددًا إلى العمل معًا لكن هذه المرة في قيادة الدولة.
خلال محاكمته هذه المرة، وبينما كان بيجوفيتش حبيس الزنزانة وقاعة المحاكمة، كانت كلمته الشهيرة تتداول في كل بيت بالبوسنة، حينما وقف في القاعة يقول: “لقد سخرت حياتي كلها للإسلام” وجملة “لقد منحت كل ما عندي من الحب للإسلام”.
بعد 5 سنوات و8 أشهر في السجن، من إجمالي العقوبة 14 سنة، خرج بيجوفيتش للنور مجددا كما أن إيمانه بالفكرة الإسلام لم يكن بمقدور سنوات حبسه أن تطفئه، وصدر قرارا بالعفو عنه في وفمبر 1988م، رغم محاولات إقناعه سابقا بتقديم طلب للعفو لكنه رفض بشكل قاطع قائلا: “إذا فعلت هذا فمعناه أنني مذنب، وأنا لست مذنبا”.
انتخب بيجوفيتش رئيساً للبوسنة في أواخر 1990م
الطريق إلى الرئاسة
في عام 1990م أنشأ علي عزت بيجوفيتش مع زملائه حزب “العمل الديمقراطي SDA”، وكانت المفاجأة وفاز الحزب بالأغلبية المطلقة 99 مقعدًا، وانتخب بيجوفيتش رئيساً للبوسنة في أواخر 1990م، وفي 29 فبراير أجري استفتاء شعبي في البوسنة على الاستقلال عن يوغسلافيا، صوّت غالبية المشاركين فيه لصالح خيار الاستقلال، لكن هذه النتيجة لم يقبل بها صرب البوسنة أو نظراؤهم ممن تبقوا في يوغسلافيا، فشنوا حرب إبادة ضد المسلمين، راح ضحيتها نحو 200 ألف فضلا عن آلاف النساء ضحايا الاغتصاب، وتدمير مئات المساجد.
انتهت هذه الحرب بتوقيع اتفاقية دايتون في ديسمبر 1995م، والتي قسمت البوسنة إلى فيدراليتين واستبدلت مقعد الرئيس بمجلس رئاسي ثلاثي، إلا أن بيجوفيتش وصفها بـ”السلام المر” وهناك عبارة منسوبة إليه تقول” اتفاقية ظالمة خير من حرب ظالمة”.
بعد انتهاء الحرب يستمر بيجوفيتش في قيادة البوسنة حتى أكتوبر من عام 2000، ثم يغادر مبنى الرئاسة كما هو لم يتغير كما عاش وناضل وزهد إلا في أفكاره، وفي 2003 يتعرض لوعكة صحية يدخل على إثرها المستشفى يرقد هناك حتى يكتب الصفحة الأخيرة في مسيرة نضاله، ويتم دفنه بمقبرة الشهداء في سراييفو، وهو الذي قال “لو عرضت علي الحياة مرة أخرى لرفضتها، لكن لو كان علي أن أولد من جديد لاخترت حياتي”.