العمل التطوعي رسالة إنسانية سامية حضت عليه الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، وهو من سمات المجتمعات الحيوية فمن خلال منصاته ومنابره المختلفة يمكن استثمار طاقات أفراد المجتمع وتفعيلها للمساهمة بنهضة المجتمع، ويمكن اعتبار العمل التطوعي (من حيث الانتشار والتنوع والجودة) أحد المعايير المهمة لقياس تطور المجتمعات الإنسانية، ويستند العمل التطوعي لمجموعة من القيم المرجعية الحاكمة لضمان تميزه واستمراره، ويمكن تقسيم قيم التطوع بحسب المستهدف منها إلى أربعة أقسام، وهي: قيمنا تجاه مفهوم التطوع، قيمنا تجاه المنظمات التطوعية، قيمنا تجاه بعضنا، قيمنا تجاه المستفيدين.
أولاً: قيمنا تجاه مفهوم التطوع:
1- حاجة المتطوع إلى التطوع: لا تقل حاجة المتطوع للتطوع عن حاجة الجهة التي يستهدفها بتطوعه، بل لعل حاجته إليه أكبر، فالتطوع يزيد من الثقة بالنفس والرضا عن الذات، ويعزز مفهوم الانتماء إلى المجتمع والفخر بهويته، وهو باب واسع لتحصيل الحسنات وارتفاع الدرجات، ومدعاة للسمو الروحي والسلوك القويم، وهناك العديد من التوجيهات الإسلامية في شريعتنا الغراء ترسخ هذا المفهوم وتؤكده، قال تعالى: (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ) (البقرة: 184)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من جهّز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلف غازياً في أهله بخير وأنفق على أهله فله مثل أجره” (صحيح الترغيب: 1239)، وقال: “مَن فطَّرَ صائمًا كانَ لَهُ مثلُ أجرِهِ، غيرَ أنَّهُ لا ينقُصُ من أجرِ الصَّائمِ شيئًا” (صحيح الترمذي: 807)، وقال: “مَن بَنَى مَسْجِدًا -قالَ بُكَيْرٌ راوي الحديث: حَسِبْتُ أنَّه قالَ: يَبْتَغِي به وجْهَ اللَّهِ- بَنَى اللَّهُ له مِثْلَهُ في الجَنَّةِ” (البخاري: 450)، وعدّ إماطة الأذى عن الطريق من شُعب الإيمان، ففيها لفاعلها صدقة، وكذا كل أعمال الخير في الإسلام رتب الله تعالى عليها الثواب الجزيل لفاعليها، ويزداد ثوابها بكثرة المنتفعين منها.
2- الإيمان بدوافع العمل التطوعي ومقاصده: يسعى العمل التطوعي لتحقيق مصالح العباد وسد احتياجاتهم الأساسية في مختلف مجالات الحياة، وإن المحافظة على الضرورات الخمس وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل من أهم مقاصد الشريعة، وهو ما عبر عنه علماء المقاصد بالضرورات، ولا ينفك العمل التطوعي عن السعي لتحقيق هذه المقاصد، عبر الحرص على وجودها، ودفع ما قد يخل بوجودها، ففي مجال حفظ الدين يسعى العاملون إلى بناء المساجد والمراكز الدينية وطباعة ونشر الكتب الإسلامية وتعليمها وترجمتها إلى اللغات الحية، وكفالة الدعاة والمعلمين والأئمة والخطباء والوعاظ وطلاب العلم، ويسعون إلى دحض الشبهات التي تثار حول الإسلام عقيدة وشريعة، ومحاربة الأفكار الهدامة وحملات التغريب التي تستهدف هوية أمتنا، ونحو ذلك من أعمال.
وفي مجال حفظ النفس يسعى العمل التطوعي إلى إغاثة الملهوفين والمكروبين من ضحايا الكوارث الطبيعية والحروب، وبناء المراكز الصحية وتوفير العلاج والدواء للأسر الفقيرة، وكفالة طلاب الطب والتمريض والصيدلة، ورعاية الأطباء والكادر الصحي، وكفالة الأيتام والأرامل، ورعاية اللقطاء ونحو ذلك من أعمال.
وفي مجال حفظ العقل تشجيع البحث العلمي ورعاية مراكز الأبحاث العلمية، ورعاية المؤتمرات والندوات العلمية، ومحاربة الخمور والمخدرات، ونحو ذلك من أعمال.
وفي مجال حفظ المال تدريب الناس على الاستثمار وتنمية المال وتزكيته خاصة في مجالي الزراعة والصناعة ومجالات التقنية الحديثة لإخراج المحتاجين من دائرة الأخذ إلى دائرة العطاء؛ ليصبحوا منتجين وفاعلين ومؤثرين في المجتمع.
وفي مجال حفظ النسل المساعدة في تزويج المعسرين وتقديم المساعدات الاجتماعية لهم، وتقديم الاستشارات الأسرية لحفظ الأسر من الطلاق والتفكك، وتأسيس لجان إصلاح ذات بين الأزواج، ونحو ذلك من أعمال.
3- نشر قيم التطوع وترويج مفاهيمه: لا يمكن اعتبار القيمة قيمة مرجعية حاكمة إلا إذا انتشرت وأصبحت جزءا من الثقافة السائدة، وهناك قيم عامة يشترك فيها جميع أفراد المجتمع تعكس عقيدته وثقافته، وهناك قيم عامة يشترك فيها فئات مختصة في مجال ما، كالقيم التي تحكم عمل السياسيين والديبلوماسيين مثلا، وحديثنا هنا عن قيم العاملين في العمل التطوعي، ولترسيخ هذه القيم في أوساطهم لابد من اعتمادها ونشرها، ولعل أفضل طريقة لذلك هو إصدار ميثاق التطوع، بحيث يطلع عليه كل العاملين في هذا المجال وتوقع عليه مؤسسات العمل التطوعي، فيكون بذلك شكل من أشكال المرجعية الحاكمة للعمل والعاملين في مجال التطوع، وأحسب أن هذه السلسلة من المقالات تشكل أرضية مناسبة لصياغة هذا الميثاق ومن ثم اعتماده ونشره.
4- تطوير العمل التطوعي وتحديث أساليبه: لا يمكن استمرار النجاح لأي عمل ما لم يواكب التغيير من حوله، ولقد أصبح التسارع التقني والفني يحتم على الجميع مواكبة الوسائل الجديدة المؤثرة في جودة العمل واستمراره، فما كان ناجعا من وسائل وبرامج في الماضي قد لا يكون كذلك في الحاضر، وما هو فعال الآن قد لا يصبح كذلك في المستقبل المنظور، لذا وجب على العاملين في العمل التطوعي الحرص على تطوير العمل وتحديث أساليبه والاستفادة القصوى من كل جديد نافع في مجال الإدارة والتسويق والتدريب، وما أحسن استحضار حديث النبي صلى عليه وسلم هنا، إذ يقول: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، وفي رواية “أن يكمله”.
وإلى لقاء مع الجزء الثاني من هذه السلسلة المكونة من أربعة أجزاء، وهو بعنوان “قيمنا تجاه المنظمات التطوعية”، إن شاء الله.