من المؤكد أن الشركات الدولية ليست ظاهرة جديدة؟ ولكن الموقف الراهن يتطلب رسم صورة موضوعية تبيّن دور هذه الشركات وتأثيراتها الخطيرة وإعداد الوسائل الكفيلة لمواجهة نشاطات هذه الشركات الدولية.. وقد آن الأوان!
لقد أصبح من المسلّم به، على نطاق واسع، بين علماء الاقتصاد والباحثين في المجالات الاقتصادية والمالية والنقدية على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية والمنهجية أن بزوغ الشركات متعددة الجنسية ونموها أو كما تسمى أحياناً الشركات الدولية أو الشركات العابرة للقارات هو واحد من أكثر التطورات دراماتيكية في فترة السنوات الأخيرة.
ويعتبر بعض الباحثين هذا التطور ظاهرة كبرى أو الظاهرة الأكبر في الاقتصاد الدولي في يومنا الحاضر وتتجاوز هذه الأهمية حدود المجال الاقتصادي إلى التأثير العميق في المجالات السياسية والاجتماعية، وبصفة خاصة في دور الحكومات في ممارستها لمسؤوليتها، وفي سير العلاقات بين الدول.
إن عمليات هذه الشركات تنتشر الآن على اتساع العالم كله، حيث تبني المصانع، وتبيع منتجاتها في عديد من الدول المختلفة، وحيث تحوّل مبالغ هائلة من النقود بين العملات المختلفة، وفقاً لاحتياجاتها، وتوظف أناساً من جنسيات متباينة.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه الشركات على درجة بالغة من الضخامة، حتى إن المبيعات السنوية لواحدة منها يمكن أن تعادل أو تفوق إجمالي الإنتاج الوطني لواحدة من الدول الأوروبية، كما أن معدل نموها أسرع بكثير منها.
إن الشركات متعددة الجنسية تشكل اليوم قوة اقتصادية عظمى، فإنتاجها يزيد بمعدل يبلغ نحو ضعف معدل نمو الاقتصاد الداخلي للدول الصناعية المتقدمة، ومن المتوقع أن يكون لنحو 500 أو 600 شركة من هذه الشركات ملكية مالا يقل عن ثلثي مجموع الأصول الثابتة في العالم بأسره، وأن تقوم بإنتاج أكثر من نصف الإنتاج العالمي.
وقد قدّر باحثو جامعة هارفارد أن القيمة المضافة التي حققتها الشركات متعددة الجنسية خلال عام واحد بلغت حوالي 500 مليار دولار، أي خُمس إجمالي الإنتاج الوطني لكل دول العالم.
وبناء على ذلك، توصّل أحد الباحثين إلى أن كل دولار واحد من القيمة الاستثمارية النقدية ينتج دولارين من المبيعات سنوياً، وعلى هذا الأساس نفسه تكون الشركات الدولية قد أنتجت من السلع ما تربو قيمته على 300 مليار دولار خارج بلدانها الأصلية، وهذا الرقم يفوق القيمة الكلية للتجارة العالمية خلال ذلك العام.
إن هذه الحقائق والمعطيات وجّهت الأنظار إلى خطورة دور الشركات متعددة الجنسية وتأثيرها في العالم كله، وزاد من هذا الاهتمام ما تبيّن لعديد من الباحثين من أن هذه الشركات تفرض قيوداً شديدة على المعلومات عن استثماراتها وعملياتها ومبيعاتها وأرباحها وتحويلاتها النقدية، وما تبيّن أيضاً من أن معظم مديري هذه الشركات العملاقة يفضّلون عدم إثارة المناقشات حول هذه المعلومات سواء في مؤتمرات أو ندوات أو حلقات دراسية.
إذ يشعر هؤلاء أن من الخطورة بمكان مناقشة آثار النمو السريع للشركات الدولية على الملأ، على أساس أن مثل هذه المناقشة من شأنها أن تثير انزعاج الحكومات والرأي العام في البلدان التي تمارس فيها نشاطاتها الأمر الذي قد يثير بالتالي أفعالاً سياسية ضارة بمصالح تلك الشركات.
وللأسف، فإن سيطرة بعض الشركات الدولية في المجال التقني تبلغ حداً يجعل لها هيمنة سياسية واجتماعية في بعض الأحيان، لذا، يؤكد أكثر من مصدر اقتصادي أن هناك ثمناً سياسياً لقاء الفوائد العلمية والاجتماعية التي تقدمها الشركات الدولية في مجال التقدم التقني.
إن الشركات متعددة الجنسية تمارس سيطرة مركزية كاملة من البلد الأصلي على فروعها المنتشرة في أنحاء العالم، وجميع الفروع تعمل تحت نظام دقيق وفي إطار إستراتيجية عالمية وسيطرة عالمية مشتركة، ذلك لأن المركز الرئيس للشركة متعددة الجنسية هو بمثابة الدماغ والجهاز العصبي المركزي، لهذه الإستراتيجيات.
إن دوائر اقتصادية عديدة في العالم تذهب الآن إلى أن معدل ازدياد قوة الشركات متعددة الجنسية وسلطانها ونفوذها سوف يتسارع بصورة دراماتيكية، وأن العالم يتحوّل نتيجة لذلك بسرعة نحو عصر المؤسسات الأكبر من عملاقة.
وللأسف، فإن الشركات الدولية تفرض شروطاً باهظة ومجحفة على دول العالم الثالث النامية، مقابل تقديم رؤوس الأموال الأجنبية إلى هذه الدول، وبصفة عامة فإن الشركات الدولية لا تقوم بالاستثمار في الدول النامية إلا بشروط تحقّق لها أرباحاً أعلى بكثير من تلك التي تحصل عليها من الاستثمار في الدول الصناعية المتقدمة.
_______________________________________
مستشار اقتصادي وأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
للتواصل: zrommany3@gmail.com.