الجدل المضروب حول مفهوم الحرية في العالم العربي يعيدنا إلى إشكالية محاولة إعادة صناعة العجلة من جديد، وكان البعض يريدنا أن نعيد صناعة العجلة المربعة ومن ثم نقوم بتطويرها لتصبح دائرية فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية.
مفهوم الحرية ثار حوله جدل كبير في العالم الغربي إبان النهضة الغربية بعد الثورة الفرنسية، ولم يترك الغرب أي جزء من مفهوم الحرية إلا تم مناقشته بإغراق وتفاصيل، وتم التوافق على الإجابة عنه بما يحقق تقدم المجتمع ونهوضه.
الأصل أن الحرية مطلقة لا ضوابط عليها إلا ما حددته الدولة بنص قانوني واضح ينتقص من هذه الحرية المطلقة ويحد منها، هذا الضابط أو المعيار ضابط إلزامي لكل مواطن يعيش على أرض هذه الدولة، وهناك أيضاً محددات دينية ومحددات اجتماعية، لكنها محددات اختيارية غير ملزمة إلا لمن أراد أن يلتزم بها عن رغبة وطيب خاطر، فهي محددات اختيارية، إذ لا يمكن أن تجعل بعض التعاليم الدينية محدداً إلزامياً من محددات الحرية لجميع أطراف المجتمع في ظل مجتمعات متنوعة دينياً وطائفياً، وأيضاً لا يمكن أن تجعل العادات والتقاليد محدداً إلزامياً للحرية؛ نظراً لتنوع الحواضر الاجتماعية واختلاف العادات والتقاليد بين المدن والأرياف والبوادي.
إذا ما تحدثت عن الحرية عادة ما يتقافز إلى أذهان البعض أن الحرية هي رديف للشذوذ الجنسي، وأن إطلاق الحرية يعني أن المجتمع سوف يتحول إلى مجتمع شاذ جنسياً، فأصبحت الحرية في نظر هؤلاء مصطلحاً مرادفاً للشذوذ؛ إذ يعتبر هؤلاء أن المجتمعات شاذة بأصلها، وان ما يمنعها من الشذوذ هو مصادرة الحرية، هؤلاء لا يرون من غابات الحرية الوارفة إلا تلك الشجيرة الصغيرة المريضة، ويرفضون كل الغابة من أجل تلك الشجيرة الصغيرة المريضة.
إذا ما تم الحديث عن حرية الغرب وكيف أطلقت الحرية الإبداع، إذ إن الهدف الأول من إطلاق الحرية هو الإبداع، سريعاً تهاجم الحرية على اعتبار أن حرية الغرب لم تمنعه من ممارسة الاستعمار بحق الشعوب الأخرى ونهب خيرات أفريقيا وتدمير بعض الدول والشعوب الأخرى واستعمارها.
هذه الشبهة الأصل أن تكون داعمة للمطالبة بالحرية لا الانتقاص منها، إذ إن الحرية هي التي أطلقت الإبداع ومن بعد ذلك التفوق الغربي الذي مكنه من استعمارنا، وإن الاستعمار الذي سيطر علينا هو عرض لحالة مرضية وهو غياب الحرية الذي أدى إلى غياب الإبداع؛ وبالتالي التقهقر والنكوص والضعف، فالاستعمار ليس أساس تخلفنا، بل الاستعمار هو عرض من أعراض تخلفنا، وإن تخلفنا الأساسي هو بغياب الحرية وحكم الشعب لنفسه الذي كان أساس كل العلل ومحرك دواليب التخلف والنكوص، من يرفض الحرية وينتقص منها لأنها جعلت من الدول الحرة دولاً قوية تعتدي على الدول الضعيفة كمن يرفض ممارسة الرياضة لأن الرياضة جعلت ممن يمارسها جسداً قوياً وبعضهم يعتدي على الضعفاء، فالأصل أن يذهب الضعيف إلى ممارسة الرياضة ليصبح شخصاً قوياً يمنع الآخرين من الاعتداء عليه لا أن يحارب الرياضة وينتقص منها.
الحرية ليست نقيضاً للدين كما يتصور البعض، الحرية نقيض للاستبداد، ومن يعتقد أن الحرية هي نقيض للدين بكل تأكيد فلديه مفهوم مغلوط عن الحرية أو عن تعاليم الدين، فليس هناك قيمة جاءت بها الأديان أكثر من الحرية، وتحرير الانتقاص من الحرية ومعاداتها لأي سبب من الأسباب من قبل بعض من يدعي تصدره للإصلاح والنهوض، كمن يقطع ذراعه بكفه ويجدع أنفه بيده.
إطلاق الحرية هو المتطلب الرئيس للإبداع؛ إذ لا إبداع بلا حرية، ولا حرية ولا نهوض بلا إبداع، فالإبداع هو المحرك الأساسي لأي عملية نهوض، صحيح يمكن لأي أمة أن تنهض مادياً بالمستبد وبشكل مؤقت، لكن الحرية ستكون شرطاً أساسياً ووحيداً لاستمرار النهوض وتقدم الأمم.
أغرق الغرب الحديث في تفاصيل الحرية ووضع النظم والقوانين التي تحكم الحرية وتضع ضوابطها، فالأخذ من الغرب فيما يتعلق بالحرية لا يعني استقراضاً حضارياً كما يشتهي البعض أن يسميه، ولا يعني الخضوع للغزو الثقافي، فهذه العلوم علوم إنسانية دنيوية تراكمية وليست علوماً دينية.
الشبهات التي يثيرها بعض من يطالب بالإصلاح حول مفهوم الحرية ليحرم الأمة من الأخذ بهذه العلوم الحديثة كمن يرفض تعاطي الأدوية الحديثة في معالجة أخطر الأمراض فقط لأن لها أعراضاً جانبية.
بعض التجمعات الفكرية تنادي بالحرية السياسية، لكنها ترفض وتطالب بالتضييق على الحريات الشخصية، والبعض الآخر يطالب بالحريات الشخصية الفردية ويهمل الحريات السياسية، كل ما نريده هو إطلاق الحريات في كل الاتجاهات وكل الأنواع؛ سياسية فردية اقتصادية اجتماعية وضبطها بضابط القانون العام الذي يتوافق عليه ممثلو المجتمعات عبر المؤسسات التشريعية.