موسيقار عزف وحيداً وتلألأ في سماء العالمية نجماً مختلفاً، في وقت تشابهت فيه بقية النجوم، فريدريك عمر كانوتيه، بطل الحكاية التي سطرت بأحرف من ذهب، وظلت ذكراها خالدة في صفحات الإنسانية، تضيء دفاتر من ينسجون خيوط الإبداع في وصفها فيما بعد.
كانوتيه نجم كرة القدم المالي الذي تميز عن بقية النجوم بمواقفه الإنسانية في وقت التزم فيه البقية بأنفسهم، غير مبالين بما يجري بعيداً عن حياتهم الشخصية.
كانوتيه الرجل الذي رُفعت له قبعات الخصوم قبل أن يمتلك قلوب المحبين، ليس لمهارته في مداعبة الكرة أو إمطار شباك الخصوم بالأهداف فقط، بل لمساندته قضايا المستضعفين ونصرته لهم.
لم تبهر الأضواء كانوتيه، بل استفاد منها للتعبير عن مواقفه ومبادئه وتسليط الضوء على القضايا الإنسانية، التي استمر بالثبات عليها رغم الهجوم الكبير الذي كان يتعرض له بسببها والتي كادت تنهي حياته المهنية في وقت من الأوقات.
وصموه بالإرهاب والتطرف فعاقبهم على طريقته
ولد فريدريك كانوتيه في الثاني من سبتمبر سنة 1977 لأم فرنسية وأب من دولة مالي بمدينة رون بفرنسا بالقرب من مدينة ليون، حيث نشأ وترعرع يتيم الأب في عائلة متوسطة الدخل وأحب كرة القدم وتعلق بها منذ نعومة أظافره.
بعدما كان يمارس كرة القدم كهواية بين أزقة ليون وشوارعها، أصبح لاعباً محترفاً بعد توقيعه مع نادي ليون سنة 1997 وهو بالعشرين ربيعاً، حيث كانت أولى المحطات الاحترافية له في عالم كرة القدم. وسرعان ما لمع نجم كانوتيه مع الفريق الأول ليكون محط اهتمام العديد من الأندية بالقارة العجوز لينتقل بعدها إلى الدوري الإنجليزي الممتاز من بوابة وست هام يونايتد الذي ارتدى ألوانه ثلاثة مواسم؛ بداية من سنة 2000 حتى 2003، وقدم معهم مستويات مميزة جعلت من إدارة توتنهام هوتسبير تقرر التوقيع معه لمدة موسمين. ولكن تلك التجربة كانت غير متوازنة للعديد من الأسباب، والتي كان من أبرزها كونه اللاعب المسلم الوحيد آنذاك بصفوف “السبيرز”، حيث وصف بالإرهابي من جمهور توتنهام بسبب سجوده بعد كل هدف يسجله.
ولكن العنصرية ضده تفاقمت بعد تفجيرات لندن سنة 2005 ولم يحتمل البقاء مع الفريق الإنجليزي، ليقرر الانفصال عنه والتوقيع مع نادي إشبيلية الإسباني، لتبدأ واحدة من أجمل القصص الكروية وتجسد أروع المعاني الإنسانية، التي سطرت في سماء المدينة الأندلسية وامتد صداها إلى الأراضي المالية، حيث كانت أفضل المراحل توهجاً في مسيرته المهنية والشخصية.
على المستوى المهني نجح كانوتيه في تدوين اسمه بسجلات النادي كأحد أبرز النجوم الذين مثلوا الفريق، برصيد زاخر بالأرقام؛ أبرزها تحصله على وصافة هدافي الدوري الإسباني موسم 2006 -2007، كما تمكن في الموسم ذاته من المساهمة في تتويج إشبيلية بكأس الاتحاد الأوروبي وكأس ملك إسبانيا، ليدخل قلوب مشجعي الفريق الأندلسي ويصبح معشوقهم الأول ويعيد النادي الأندلسي الغائب عن البطولات منذ 1948 إلى منصات التتويج.
هذا التميز كان يقابله جانب مظلم من طرف الصحافة الإسبانية لسبب لا ذنب له فيه إلا احترامه لمعتقداته، حيث اتهم بصفات سيئة وأحد هذه المواقف كان شبيهاً بما حدث معه في إنجلترا، سجود كانوتيه بعد تسجيله للأهداف، هذا الأمر لم يعجب بعض وسائل الإعلام الإسبانية، فشنت عليه هجوماً حاداً، حيث اعتبرت سجوده بعد تسجيل أي هدف بمنزلة رمز ديني، ينبغي له أن يحتفظ به خارج ملاعب كرة القدم، فساهم هذا الأمر بخلق حالة من الاستهجان بين جماهير النادي.
رفض ارتداء إعلانات المراهنات وتبرع لبناء مساجد في الأندلس
مسيرة كانوتيه مع إشبيلية كانت واحدة من ألمع القصص الكروية والإنسانية في تاريخ كرة القدم الحديث، حيث أظهر معدنه ناصعاً في الحفاظ على مبادئه والتي بدأت بمجرد توقيعه لعقد انضمامه إلى صفوف إشبيلية، حيث رفض أن يرتدي قميص الفريق إلاّ بعد إزالة العلامة التجارية للشركة الراعية للنادي، والتي كان نشاطها في مجال المراهنات غير الشرعية في الدين الإسلامي، لتقرر إدارة نادي إشبيلية الانصياع لرغبته والسماح له بارتداء القميص من دون وجود اسم الشركة الراعية.
مواقف كانوتيه الإنسانية لم تتوقف عند هذا القدر بل ازدادت تميزاً، في وقت سعت إحدى الشركات العقارية لإزالة مسجد بسبب انتهاء مدة عقد الأرض التي بُنِي عليها، وبناء استثمارات أخرى تحل محله، ورغم محاولات الجالية المسلمة بالمدينة لجمع المبلغ المطلوب للسداد وإلغاء قرار الإزالة، إلا أن الأمر صعب عليهم بسبب القيمة الباهظة المطالب بسدادها والمقدرة بـ700 ألف يورو، وعند ورود هذه الأخبار إلى مسامع عمر كانوتيه قام بسداد المبلغ كاملاً والإبقاء على المسجد قائماً، لتتناقل بعدها الصحافة هذه القصة، وعند سؤاله عن هذا الأمر قال “إنه لا يملك أي تعليق؛ فالأرض قد عرضت للشراء وقام بشرائها للإبقاء على المسجد”، وأضاف بجمل واضحة: “نعم دفعت ما يقارب مليون يورو من مالي الخاص لمنع إزالة مسجد في الأندلس، وسأدفع كل أموالي إذا تطلب الأمر أكثر من ذلك، أنا مسلم وديني هو حياتي، ولست لاعب كرة قدم فقط وأعتقد أن شراء أرض المسجد أفضل من كل ألقاب كرة القدم”.
دعم فلسطين وتأسيس قرية للأيتام
نثر كانوتيه لسحره المميز بالمدينة الأندلسية استمر وسط روعة منقطعة النظير، فمساندته للقضايا الإنسانية والمناصرة للمسلمين كانت هي الأبرز، فبعد توقيعه لهدف في شباك ديبورتيفو لاكورونيا سنة 2009، قام كانوتيه بخلع قميص فريقه لتلتقط كاميرات القنوات الناقلة للمباراة قميصه الأبيض الذي كتبت عليه عبارات نصرة ومساندة للشعب الفلسطيني أثناء محاصرته وتعرضه للعدوان من طرف الاحتلال الإسرائيلي، فعلى الرغم من علمه مسبقاً بالعقوبة التي ستطاله بسبب إظهاره لعبارات ضد الكيان الصهيوني، إلا أنه ثبت على مواقفه وأظهر شجاعة قل نظيرها.
نجاح كانوتيه في رسم الابتسامة على محيَّا المحتاجين لم يتوقف، حيث أنشأ قرية لمساعدة الأيتام في مالي، تتوفر داخلها الرعاية الصحية والتعليم، وتشمل مركزاً للتدريب على الوظائف لتطوير المهارات المهنية، كما أسس جمعية خيرية سنة 2006، كان الهدف منها محاربة الفقر في العالم ومد يد العون للمحتاجين، حيث ساهمت هذه الجمعية في مساعدة العديد من الأشخاص، وفي عام 2012 نظم كانوتيه والعديد من لاعبي إشبيلية مباراة خيرية لكرة القدم ذهبت عائدات ريعها من بيع التذاكر إلى اليونيسف ومؤسسة كانوتيه الخيرية.
كل هذه المواقف هي ما جعلت من كانوتيه نجماً ينتزع الاحترام من الجميع سواء من مشجعي إشبيلية أو الآخرين من المسلمين وغير المسلمين.
اختار مالي على حساب فرنسا
ومن المواقف المميزة له أيضاً تخليده لذكرى والده المتوفى، والذي لم يشاهده حيث عاش يتيماً، ولكنه قرر أن يمثل منتخب مالي على حساب فرنسا؛ تكريماً لوالده باختيار موطنه بديلاً عن البلد الذي وُلد فيه، لا سيما أن الفرصة كانت مهيأة أمامه للعب في صفوف منتخب فرنسا الأول، خصوصاً أنه كان قد لعب في وقت سابق مع المنتخب الأولمبي الفرنسي، لكنه قرر تمثيل مالي من أجل المشاركة في بطولة كأس الأمم الإفريقية التي أقيمت في تونس سنة 2004، والتي نجح فيها في رسم الابتسامة على محيا كل مشجع مالي بعد تألقه في البطولة، بتحقيقه للمركز الرابع واتشح بلقب هداف البطولة مشاركة مع 4 لاعبين.
تألق كانوتيه على الساحة الإفريقية كان متواصلاً، حيث تمكن من تقلد جائزة أفضل لاعب في إفريقيا سنة 2008، ليكون أول لاعب في تاريخ المسابقة يتوج بلقب الأفضل وهو مولود خارج إحدى دول القارة السمراء، وبعد مغادرته لأسوار إشبيلية انضم إلى الدوري الصيني ليقرر بعدها اعتزال كرة القدم. ولكنه لم يعتزل عمل الخير ولأول مرة منذ 700 سنة يتم طرح مشروع لبناء مسجد في مدينة إشبيلية، ففي سنة 2019 أطلق عمر كانوتيه حملة لدعم بناء مسجد في مدينة إشبيلية لرغبته في مساعدة مسلمي المدينة في بناء مسجد ومركز ثقافي إسلامي في المدينة بعد الاطلاع على أحوالهم أثناء احترافه مع فريق إشبيلية وتواجده هناك.
رفض الإفطار في رمضان
ما يجعل من كانوتيه قدوة حسنة يحتذى بها هو تمسكه بالمبادئ السامية واحترامه لتعاليم دينه. من بين كل اللاعبين المسلمين الذين مروا على ملاعب أوروبا يظل اسم النجم المالي عمر كانوتيه خالداً في الأذهان، بمواقفه التي كان يؤكد فيها مراراً وتكراراً تمسكه بعقائده وتعاليم دينه وفرائضه، والحرص دوماً على تأديتها والمداومة عليها.
من بين تلك الفرائض والتعاليم صيام شهر رمضان الكريم، حيث تمسك كانوتيه بالصيام، رغم معارضة مدربه الإسباني مارسيلينو له؛ حيث كان دائماً ما يوصيه بضرورة الإفطار وعدم الصيام لأنه -وبحسب رأي المدرب الإسباني- صيام كانوتيه سيؤثر على مردوده داخل الملعب.
ولكن إصرار كانوتيه على المداومة على الصيام كان متزامناً مع تألقه في المباريات والتي كان يسجل ويصنع فيها العديد من الأهداف، وعند تناول الصحافة لهذا الأمر تحدث كانوتيه عن الصوم بأنه نوع من أنواع التمسك بتعاليم الإسلام ويزيد الجسم قوة، وتفاخر بكونه مسلماً؛ حيث عبر عن ذلك بقوله “من يعرف الإسلام جيداً يدرك تماماً أنه لا يضعف الإنسان بقدر ما يقوِّيه ويفيد صحته”، لتنتهي هذه المسألة بانتصار جديد لكانوتيه، إذ لم يجد مدرب الفريق بداً من تغيير مواعيد تدريبات الفريق، لتتناسب مع مواعيد صيام عمر وصلواته، مستسلماً أمام إصرار كانوتيه على أداء فرائضه.
صيام كانوتيه وامتناعه عن الطعام والشراب رغم أداء التدريبات والمباريات، كان مثار تساؤلات لمدربيه وزملائه، كما أكد هو بنفسه في حواره لصحيفة إندبندنت البريطانية معبراً عن ذلك بقوله: “الأمر يجعل الزملاء والمدربين يتساءلون حول عدم تناولي للطعام، ولا أفكر أبداً في الطريقة التي ينظرون لي بها، أنا فقط شخص طبيعي يعيش حياته بطريقته”.
فريدريك عمر كانوتيه.. قصة رجل شجاع
قصته هي قصة رجل شجاع بدأت أولى صفحاتها عند اعتناقه للدين الإسلام، سنة 1999 وهو بسن العشرين ربيعاً فقط.
ولكنه لم يكن متوقعاً كم الهجوم الشرس الذي سيُشَن عليه من طرف المتعصبين من غير المسلمين والذي امتد إلى وسائل الإعلام وأروقة الصحافة “الرخيصة”، التي جعلت من كانوتيه مادة دسمة لأخبارها اليومية، فلا فرق في صياغة الخبر لديها إن كان كانوتيه نجماً للمباراة داخل أسوار الملعب أو قدوة حسنة خارجه، حيث كانت منهجية تلك الصحف إظهار كانوتيه في موقف الشخص السيئ الذي يناصر الإرهاب ويساند المتطرفين، بينما الواقع مغاير تماماً.
فريديريك الأمس ليس هو عُمر اليوم، وقع اختيار كانوتيه على اسم عُمر لإعجابه بالصحابي الجليل عُمر بن الخطاب، والذي اختار اسماً تيمناً به. وربما وجه الشبه بينهما يكمن في القوة والشجاعة في اتخاذ المواقف التي تجبر الجميع على احترامه لثباته على مبادئه، بغض النظر عن الاتفاق أو الاعتراض على مضمونها من بعض المشجعين أو الصحفيين.
لك أن تتخيل أبواب النجومية كانت مفتوحة على مصراعيها لشاب في مقتبل العمر، ولا شيء يجبره على ترك كل تلك الأضواء والاتجاه إلى الاستقامة في القول والفعل إلاّ لهداية من خالقه ولأثر جميل لامس قلبه بعد بحثه ودراسته للإسلام من كافة نواحيه، بتبادل أطراف الحديث مع الجاليات المُسلمة في مدينة ليون مسقط رأسه، وبعض الأصدقاء من بني جنسه في دولة مالي بالقارة السمراء.
قصة كانوتيه هي قصة نجم اتكأ على مبادئه؛ فلامس قلوب كل مُسلم ورُفعت له قبعات كُل من يحترم الإنسانية.
______________________________
(*) المصدر: “عربي بوست”.