في الآونة الأخيرة، شُنت حملة شديدة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، متهمة إياه بـ”الإرهاب والتطرف”، وكأنه يعيش بين ظهرانينا! جاء ذلك من خلال رسالة أرسلها قيادي بأحد الأحزاب الكردية العلمانية الرئيسة في كردستان العراق إلى مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله خامنئي.
وجاء في نص الرسالة أن “الخليفة عمر (رضي الله عنه) قد سفك دماء الكثير من الكرد، ونهب ممتلكاتهم من خلال عمليات الفتح الإسلامي للمنطقة الكردية”، حسب نص الرسالة، علماً بأن الكُرد كانوا رعايا ضمن الإمبراطورية الفارسية الساسانية، ولم يكن لهم إسهام البتة في قيادة الدولة؛ لأنها كانت حكراً على العوائل الفارسية السبع فقط حسب النظام الطبقي المعمول به آنذاك، وقد استبشروا خيراً بوصول المسلمين إلى بلادهم لإنقاذهم من التسلط الفارسي الساساني، ومن النير البيزنطي، ومن تعقيدات المجوسية إلى سماحة الإسلام؛ ومن عبادة الآلهة الثنائية والمتعددة إلى نور التوحيد؛ لأن بلادهم كانت مقسمة بين أراضي الإمبراطوريتين سالفتي الذكر، كما هو معلوم.
وقد لاقت هذه الرسالة شجباً واستنكاراً من آلاف المسلمين الكرد دفاعاً عن الخليفة الراشد العادل، الذي أرسى دعائم العدل والحكم الرشيد والتسامح؛ وأصبح رمزاً للعدل والحق وقدوةً ونبراساً لمن جاء بعده من الحكام على مر التاريخ.
ولا يخفى أن العديد من قادة الأحزاب الكردية العلمانية وغير العلمانية يحملون اسم أمير المؤمنين، فكيف تسنى لهذا الشخص وغيره من المعادين للإسلام التجرؤ على اتهام الحاكم العادل الأبرز في التاريخ الإنساني، الذي سارت بسيرته وإحقاقه العدل بين أبناء الأمة الركبان؟
الجذور التاريخية للحملة على الخليفة عمر بن الخطاب
ترجع هذه الحملة إلى بداية القرن العشرين، حينما تمكنت بعثات التنصير البروتستانتية من تنصير سعيد نجل ملا رسول، إمام جامع مدينة سنندج عاصمة كردستان الإيرانية، وتجدر الإشارة إلى أن الطبيب سعيد بن ملا رسول الملقب بـ”سعيد خان كردستاني” كان قد غادر مدينة سنندج عام 1881م بصورة سرية إلى مدينة همدان، وتنصَّر هناك رسمياً عام 1887م بتعميده من قبل المبشر الأمريكي البروتستانتي د. ألكساندر، واستقر في مدينة همدان إلى أن مات فيها عام 1942م، وكان قد تدرب على مهنة الطب من خلال إرساله إلى أوروبا عدة مرات، حتى أصبح طبيباً يشار إليه بالبنان تحت اسم “سعيد خان كردستاني”، كما هي ديدن الحركات التنصيرية التي تتخذ من مهنة الطب الإنسانية وسيلة مهمة للتنصير بين الرعايا المسلمين وغير المسلمين بقصد إدخالهم في النصرانية!
وكانت لسعيد خان عدة زيارات مكوكية إلى منطقة الحدود الإيرانية – العثمانية في بداية القرن العشرين، وكان يهوى جمع المخطوطات والوثائق القديمة، وبالفعل اكتشف ثلاث وثائق مدونة عثر عليها في كهف “كوه- سالان” في منطقة جبال هاورامان على الحدود العراقية – الإيرانية، اثنتان منها كتبتا بالحروف اليونانية الكلاسيكية، والثالثة دونت بالخط الآرامي القديم، عندما زار منطقة هاورامان في إحدى زياراته المكوكية عام 1912م بقصد علاج أحد حكام المنطقة، وهي عبارة عن ثلاثة صكوك بيع بستان الكروم، الذي أخذها إلى لندن خلال دراسته الطب لتحليلها من قبل المختصين.
نشرت الوثيقتان الأوليان في مجلة “الدراسات الهيلينية” عام 1915م من قبل البروفيسور مينس، أما الثالثة فقد نشرها كاولي في مجلة “الجمعية الآسيوية الملكية البريطانية” عام 1919م، ويعتقد بأن جميع هذه الوثائق ترتقي إلى العصر الفرثي (الأشغاني– ملوك الطوائف).
وغني عن القول، إن الطبيب سعيد خان كردستاني تعاون مع الباحث الكردي الإيراني الآخر د. غلام رضا رشيد ياسمي (1896 – 1951م) الذي ينتمي إلى عشيرة الباجلان الكردية ومن أتباع المذهب الشيعي الغالي، في تزوير الوثائق الأصلية الخاصة ببيع بستان العنب سالف الذكر، وانتحال وثيقة جديدة مزورة؛ لغرض الانتقام من الإسلام، والدعاية للنصرانية، زعم أن الوثيقة الأصلية عبارة عن أبيات شعرية مدونة باللغة الكردية (اللهجة الكرمانجية الجنوبية – السورانية)، تخص وقائع انتشار الإسلام في كردستان، وكيف أن المسلمين الفاتحين قتلوا زعماء الزرادشتيين، وأطفؤوا النيران المجوسية، ودمروا معابدهم، ونهبوا ممتلكاتهم وسبوا نساءهم!
تهدَمت معابدُ هرمز وأُخمدت النيران
واختفى أحد أكبر الزعماء
لقد هزموا الأكراد
وانسحب الأكراد إلى حدود شاهريزور
ووقع في الأسر النساء والفتيات
قتل الأبطال في الكمائن
وظل قانون –ملك– زرادشت لا حول له ولا قوة
ولم يعد لهرمز الشفقة لأي شخص
كما لا يمكن نسيان إسهام رشيد ياسمي بحكم عقيدته الباطنية وارتباطه المشبوه بمخطط الشاه الإيراني رضا بهلوي (1925 -1941م)، حيث انتسب للعمل في جامعة طهران كأستاذ اعتباراً من عام 1934م، وكان يحاول هو الآخر الدعاية لأفكار الشاه حول توحيد الأمم الآرية تحت رايته، واعتبار المجوسية الدين القديم لهذه الأمم، ويجب إحياؤه من جديد، ومحاولة إخماد الحركة الوطنية الكردية في كردستان إيران من خلال ربط تاريخ الكرد بتاريخ الفرس!
فلا عجب أن تلاقت أفكار الرجلين في انتحال هذه الوثيقة، مهمة المبشر الطبيب سعيد خان تتجلى في تشويه سمعة الإسلام، وكيف أنه انتشر عن طريق السيف الذي أدى إلى تدمير مقدرات الشعب الكردي! فيما كانت مهمة د. ياسمي تذهب إلى الدعاية للديانة المجوسية من ناحية، وتشويه سمعة الإسلام من ناحية أخرى، وتحديداً الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، على أساس أن الفتح الإسلامي للهضبة الإيرانية ولكردستان جرى في عهده، وأودعها في كتابه المؤلف باللغة الفارسية “كرد وبيويستكي نزادي وتاريخي آو” (الكرد وروابطهم العرقية والتاريخية) (ص 120)، ادعى بأنها تنسب إلى كهف يقع في جنوب جيشانة في كهف هزار ميرد (كهف كبير يقع على بعد عدة كيلومترات في سفح الجبل الواقع جنوب غرب مدينة السليمانية)، وهذا الكتاب مخصص في غالبيته لكيل المدح والفخر للأسرة الساسانية التي أعادت الاعتبار للديانة الزرادشتية واعتبرتها الديانة الرسمية للدولة في عهد عاهلها الملك أردشير بن بابك بن ساسان (224 – 242م).
ولما كان المؤرخ والصحفي الكردي الناشئ حسين حزني الموكرياني (1893 – 1947م) من أهالي مدينة مهاباد الإيرانية يحاول ملء حلقات مفقودة من تاريخ الشعب الكردي، وكعادته في نشر مثل هذه الروايات دون تمحيص أو دون الإشارة إلى المصدر الذي نقل منها، فقد نشر هذه الوثيقة المزورة المنتحلة في مجلته “زاركرمانجي” (العدد (21) في 6 أبريل 1930م) التي كانت تصدر في مدينة رواندوز بكردستان العراق اعتباراً من عام 1344هـ/ 1926م، ولم يدر بخلده بأنها تشوه صورة الإسلام دين غالبية الكرد بني قومه، ومن ثم فإن العديد من الكتَّاب الكرد والفرس وبعض المستشرقين نقلوا هذه الوثيقة في مؤلفاتهم نقلاً عن ياسمي دون التحقيق من مصدرها الأصلي، أو التحقق في مدى وجود هذه الوثيقة أصلاً.
وقد تبنى بعض المستشرقين هذا الرأي، ومنهم الفرنسي الدومنيكي توماس بوا (1900 – 1975م)، في كتابيه “تاريخ الأكراد”، و”الكرد والحق”، فعلق عليها قائلاً: غير أن هذا الاحتلال (الفتح الإسلامي) كان بعيداً لجعل هذا البلد إسلامياً بالكامل فقد اصطدمت جيوش الخليفة عمر مع أكراد الأهواز ولم يكن ذلك دون إراقة الدماء، حيث استولت على شهريزور عام 643م، وعلى برود وبالاسجان عام 645م، وإن ذكرى هذا الاعتناق العنيف والشاق مذكورة في نص تمت قراءته قديماً!
غير أن المستشرق البريطاني ديفيد نيال ماكينزي (1926 – 2001م)، المختص باللغات الآرية ومنها الكردية، شكك في صحة هذا النص (الوثيقة المزورة)، وقال: إنها منحولة.
ويسأل الباحث هنا سؤالاً: لماذا غفل هؤلاء عن تلك الحملة العسـكرية الكبيرة التي قادها الإمبراطور البيزنطي هرقل (610 -641م) لمطاردة القوات الفارسية الساسانية خلال المنطقة الكردية عام 628م التي بقيت تحت السيطرة البيزنطية إلى عام 619م؟ وكيف أنه قضى على قدس الأقداس المجوسية (معبد بيت النار آذركُشناسب) الواقع في مدينة شيز جنوب شرق مدينة أورميه في أذربيجان الغربية (كردستان إيران) ودمره حيث ثأر منه بانتزاع الصليب (المقدس) من كنيسة القيامة في مدينة إيليا كابيتولينا (القدس) من قِبل الجيش الفارسي الساساني؟ وكانت منطقة شهر زور الواقعة في شرق كردستان العراق قد تعرضت لتخريبات وعمليات نهب كبيرة من جراء تلك المعارك الطاحنة بين الدولتين الفارسية الساسانية والرومية البيزنطية، وقد قضى الإمبراطور هرقل، في فبراير 628م، فيها ولم يترك مدينة أو قرية في هذه المنطقة الكردية إلا وأعمل فيها يد النهب والسلب والتدمير ثم توجه نحو منطقة أردلان في كردستان إيران.
وهذا العصر الذي وجدت فيه الوثيقة المزعومة المنحولة تسبق عصر الفتوحات الإسلامية بأكثر من 7 قرون، فضلاً أن وثائق هاورامان مدونة باللغتين الآرامية واليونانية، أما الوثيقة المزعومة فهي مدونة باللغة الكردية لهجة منطقة هاورامان، وعند دراسة اللغوي الكردي د. كامل حسن البصير لهذه الأبيات الشعرية، وجد من خلال النقد الداخلي لها بأنها منحولة، “اصطنعها بعضهم من اللهجات الكردية المعاصرة لغرض ما”.
كما أن أقدم نص شعري كردي وصل إلينا هو ما نسب إلى الشاعر بابا روح الهمداني الذي عاش في القرن التاسع الميلادي/ الثالث الهجري، وتوفي عام 841م، رغـم الشكوك التي تساور هذه المعلومـة على أسـاس أن الباحـثين الإيرانيين يعدونه شاعراً فارسياً أو على أقل تقدير شاعراً لُرياً، وأن العديد من المستشرقين الأوروبيين والباحثين الفرس لا يعدون اللور من الكرد، رغم أن البلداني الإسلامي ياقوت الحموي المتوفى عام 626هـ أدخلهم ضمن الجنس الكردي في كتابه “معجم البلدان” (المجلد الخامس).
وفي السياق نفسه، لا يمكن نسيان طروحات الكاتب الإيراني د. محمد إبراهيم باستاني باريزي (1925 – 2014م) المشهور بكتاباته بالأسلوب القصصي التاريخي السهل المبسط، حيث جذبت إليها قراء كثيرين، منها قوله: إن أبا لؤلؤة الفارسي كان من سكان مدينة نهاوند، وإنه كردي الأصل، وقد اقتبس أحد الباحثين الكرد العراقيين هذه المعلومة دون تمحيص وصنع منها سردية كاملة، فحواها أن أبا لؤلؤة البطل النهاوندي الفيلي قتل عمر بن الخطاب انتقاماً لشهداء وسبي معركة جلولاء! ولم يدر بخلد الباحث الإيراني د. باريزي، ولا الباحث الكردي العراقي عبدالرحمن مزوري، أن مدينة نهاوند كان سكانها في صدر الإسلام خليطاً من الفرس والكرد، وأن أبا لؤلؤة كان فارسياً، بدليل أن شقيقه أبا الزناد عبدالله بن ذكوان الفارسي (65 – 130هـ) كان تابعياً، ولا يعقل أن يكون أبا الزناد فارسياً، وأن يكون أخوه أبو لؤلؤة كردياً!
وبعد تفنيد هذه المزاعم، يلوح للباحث بأن القصد منها مـا هو إلا النَّيْل من الدين الإسلامي، وتشويه صورة الفتوحات الإسلامية للمنطقة الكردية في -عهد الخلافة الراشدة- وبالتالي تشويه سمعة الخلفاء الراشدين وقادة الفتح الإسلامي لإيران وبلاد الكُرد؛ في الوقت الذي كان الكرد يعانون من شتى صنوف الأذى والاضطهاد والظلم والتهميش على أيدي حكام الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية اللتين كانتا تتقاسمان المنطقة الكردية.