لم يفهم كثير من العرب سر إعلان إدارة الرئيس الأمريكي «جو بايدن» اعتزامها إهمال المنطقة العربية الشرق أوسطية وإسقاطها من اهتمامها، وإعطاء الأولية والتركيز الأمريكي للصين وآسيا، إلا حين بدأت معالم حرب تدور تحت الأرض بين الصين وأمريكا لقيادة العالم.
مَنْ كان يعتقد أن الحرب الباردة قد انتهت بسقوط جدار برلين فعليه متابعة تطورات العلاقات الأمريكية الصينية
هذه الحرب التي تشكل نوعاً جديداً من الحرب الباردة التي شهدها العالم بين أمريكا والاتحاد السوفييتي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي؛ هي «الحرب السيبرانية» التي تستخدم الوسائل التقنية الحديثة وتكنولوجيا الإنترنت والاتصالات.
من كان يعتقد أن الحرب الباردة قد ولّت وانتهت بسقوط جدار برلين؛ فعليه متابعة تطورات العلاقات الأمريكية الصينية، وصراع النفوذ بين العملاقين وحلفائهما الذي دخل مرحلة اصطفاف جديدة تعترضها مطبات كبرى، أولها اقتصادية.
مبعث القلق الأمريكي هو تفوق الصين على أمريكا في العديد من مكامن القوة التكنولوجية، وتزايد الحديث عن انتقال القوة الاقتصادية من الغرب نحو الشرق، بسبب التحول في هيكل الاقتصاد العالمي لصالح الرقمنة وتفوق الصين فيه.
وعكس المتوقع، فقد سعى الرئيس «بايدن» إلى تغيير الأولويات الإستراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية، وأكد أن روسيا لم تعد منافساً مباشراً لواشنطن، مصنفاً إياها كلاعب ثانوي بالمقارنة مع ما يعتبره صعوداً مقلقاً للقوة الصينية على الصعيد العالمي.
وفي العام الماضي، كتب صندوق النقد الدولي، في ثنايا تقرير له، أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد عالمي بشكل مؤقت، بسبب تضرر الناتج المحلي الأمريكي، من تبعات جائحة «كورونا»؛ ما جعل الاقتصاد الصيني الأكبر عالمياً.
كما كتب «جيمس ستافريديس»، وهو أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأمريكية وقائد عسكري سابق لحلف «الناتو»، في مقالة نشرتها «بلومبيرج»، أن هناك 17 عنصراً نادراً تعد الصين مستخرجاً رئيساً لها، قد تدفع علاقة واشنطن وبكين لمزيد من التوتر، مضيفاً أن هذه العناصر الأرضية النادرة قد تصبح ساحة حرب بين الولايات المتحدة والصين خلال السنوات الأخيرة، إذ تضم الأرض الصينية الواسعة أنواعاً كبيرة من هذه المعادن، وتعد بكين مصدراً شبه وحيد لاستخراجها، وهذه العناصر النادرة، هي: «لانثانوم، سيريوم، براسيوديميوم، نيوديميوم، بروميثيوم، سماريوم، يوروبيوم، جادولينيوم، تيربيوم، ديسبروسيوم، هولميوم، إربيوم، ثوليوم، إيتربيوم، لوتيتيوم، سكانديوم، وإيتريوم».
ورغم أن الكثير من هذه المعادن ليس نادراً من زاوية الرواسب العالمية، فإن استخراجها عملية صعبة وباهظة التكاليف، وتعد الصين رائدة في عملية الاستخراج، وتستخدم تلك المعادن في الصناعات عالية التقنية، بما في ذلك الهواتف الذكية، والطائرات المقاتلة، والمكونات الداخلة في كافة الأجهزة الإلكترونية المتقدمة تقريباً.
وتسيطر الصين على ما يقرب من 80% من سوق العناصر الأرضية النادرة، منها ما تعمل على استخراجه بنفسها، ومنها العمليات الجارية على المواد الخام من أماكن أخرى حول العالم.
وإذا ما قررت الحكومة الصينية الاستعانة بسلاح تقييد الإمدادات من هذه العناصر –الأمر الذي هدَّدت به بكين مراراً وتكراراً من قبل– فمن شأن ذلك أن يخلق تحديات هائلة أمام المصنعين؛ لذلك وصف مسؤولو إدارتي «ترمب» السابقة، و«بايدن» الحالية، الصين بأنها «التحدي الجيوسياسي الأكبر لأمريكا»، ووصفوا القيادة الصينية بأنها «مفترسة».
كما تسبق الصين الولايات المتحدة بأنظمة ترددات الجيل الخامس للإنترنت (5G) التي يُتوقع أن تُحدث ثورة في عالم الرقمنة على إنترنت الأشياء والاستشعار والحواس.
وما تزال الشركات التكنولوجية الأمريكية متأخرة كثيراً عن نظيرتها الصينية في التوصل إلى بناء معدات وأنظمة قادرة على توفير سرعة الإنترنت التي تقدمها الشركات الصينية، وأبرزها “هواوي”؛ لذا تعتبر الصين المورّد الرئيس لتكنولوجيا الجيل الخامس، وكل المواد اللوجستية المتعلقة بهذه التكنولوجيا، وهي تحث زبائنها على اعتماد رؤية للشبكة تقارب رؤيتها.
كما تدعو الصين دول العالم إلى استخدام “السور الرقمي العظيم” الذي تتصدره مجموعة “هواوي”، هذه الشركة التي ما برحت واشنطن تضغط على حلفائها من أجل إقصائها، بحجة تجسس الشركة لحساب بكين.
ومع استمرار توسع مبادرة طريق الحرير والتنامي المطرد للقدرات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية للصين، فإن التصادم مع القوة الأمريكية مبرمج بالضرورة في عدد من الجبهات حول العالم.
لذلك لم تكن الحرب التجارية التي أعلنها “دونالد ترمب”، ويكملها “بايدن”، مجرد نزوة؛ فقد بات صناع القرار في الولايات المتحدة على وعي تام بالتحدي الإستراتيجي الذي تشكله القوة الصينية بالنسبة للهيمنة الغربية على العالم.
وزير أمريكي سابق: البيانات وليس الأسلحة المحرك الرئيس للحرب الباردة بين واشنطن وبكين
تفاصيل “الحرب الباردة”
في 11 يوليو الماضي، نشر وزير العمل الأمريكي السابق «روبرت رايش» مقالاً بصحيفة «الجارديان»، قال فيه: إن البيانات -وليس الأسلحة- هي المحرك الرئيس للحرب الباردة الناشئة بين الولايات المتحدة والصين، وأضاف أن «الحرب الباردة الناشئة بين بكين وواشنطن لا تتعلق بالأسلحة التقليدية بقدر ما تتعلق بجمع البيانات وتحليلها والاستفادة منها إلى أقصى حد للتغلب على الجانب الآخر، وأن القلق الحقيقي للمشرعين الأمريكيين بشأن شركة «ديدي» الصينية لنقل الركاب، وشركات التكنولوجيا الصينية الأخرى التي تكتسب موطئ قدم مالياً في الولايات المتحدة؛ هو أنهم قد يجمعون كميات كبيرة من البيانات حول الولايات المتحدة».
وفي كتابه «تحول السلطة.. بين العنف والثروة والمعرفة»، قال المفكر الأمريكي «ألفن توفلر»، في تسعينيات القرن الماضي: إن «الصراع الدولي المقبل سيدور حول المعرفة، وستكون مسرحه وميدانه عقول البشر وما تحتويه من معلومات ومعارف»، مشيراً إلى أن «قضايا التكنولوجيا ستحتل مكانة رئيسة في التنافس الدولي»، خصوصاً بين الولايات المتحدة وبقية القوى الكبرى.
ولا تقتصر الحرب السيبرانية على الصين وأمريكا فحسب، فحين التقى الرئيس «جو بايدن» بنظيره الروسي «فلاديمير بوتين»، بقمة جنيف، في يونيو الماضي، كانت الهجمات السيبرانية من أبرز القضايا الخلافية التي أثارها الرئيس الأمريكي، في مؤشر مهم حول تغير طبيعة المواجهة إلى «سيبرانية» بعد انحسار المنافسة العسكرية النووية خلال الحرب الباردة.
وقال «بايدن»: إنه قدم لـ«بوتين» قائمة بأسماء 16 قطاعاً أو صناعة محددة أو بنية تحتية حيوية من قطاع الطاقة إلى شبكات مياه الشرب وغيرها يجب أن تبقى في مأمن من الهجمات السيبرانية، وهدد «بايدن» بأنه إذا استمرت الهجمات ضد الأجهزة الأمريكية الحكومية أو الشركات الخاصة من داخل الأراضي الروسية –من قراصنة حكوميين أو مجرمين عاديين– فإن الولايات المتحدة سوف ترد بالمثل إلكترونياً بـ«هجوم سيبراني».
وفي السنوات الماضية، تعرضت الأجهزة الحكومية الأمريكية، وشركات القطاع الخاص العملاقة، لهجمات إلكترونية فعالة، قامت بها دول، أبرزها الصين ثم روسيا وكوريا الشمالية وإيران، وجميعها كانت أقل تطوراً من الولايات المتحدة في مجال القدرات السيبرانية.
هذه الهجمات طالت وزارة الدفاع، وأجهزة الاستخبارات، وشركات الطيران، وشركات الطاقة، وشركات إلكترونية ضخمة، مثل شركة «سوني» (التي تعرضت لهجوم إلكتروني من قبل كوريا الشمالية لأنها أنتجت ووزعت فيلماً يسخر من زعيم كوريا الشمالية)، أبرز هذه الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة من الناحية السياسية هي تلك التي استهدفت الحزب الديموقراطي الأمريكي وشبكة اتصالاته خلال انتخابات الرئاسة في عامي 2016 و2020م.
وضمن هذه الحرب، قررت لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية (FCC)، في 27 أكتوبر الماضي، إلغاء الرخصة الممنوحة لشركة “تشاينا تليكوم” للعمل في الولايات المتحدة، مشيرة إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي.
و”تشاينا تيليكوم”، هي واحدة من أكبر شركات الاتصالات الصينية، وحصلت على رخصة لتقديم خدمات الاتصالات منذ نحو 20 عاماً في الولايات المتحدة، وفقاً لـ”رويترز”، وقالت اللجنة: إن الشركة تخضع للاستغلال والتأثير والسيطرة من قبل الحكومة الصينية، وإن ملكية الحكومة الصينية وسيطرتها تثير مخاطر كبيرة على الأمن القومي الأمريكي وإمكانية الوصول إلى الاتصالات الأمريكية وتخزينها وتعطيلها وإساءة توجيهها.
وهذه الشركة تقدم خدمات اتصال عبر الموبايل لأكثر من 4 ملايين أمريكي صيني، ومليوني سائح صيني يزورون الولايات المتحدة سنوياً، و300 ألف طالب صيني في الكليات الأمريكية، وأكثر من 1500 شركة صينية في أمريكا.
أيضاً صنفت أمريكا، في مارس الماضي، “هواوي” بين شركات معدات الاتصالات الصينية التي تعتبر تهديداً للأمن القومي، واعتبرت أن “هواوي” تشكل خطراً غير مقبول على الأمن القومي، على غرار “ZTE”، و”هيتيرا كوميونيكيشنز”، و”هانغتشو هيكفيجن ديجيتال تكنولوجي”، و”داهوا تكنولوجي”.
وقد أصدرت وزارة التجارة الأمريكية، في 20 أكتوبر الماضي، قواعد جديدة وضوابط لتصدير أو إعادة تصدير أو نقل صادرات البرمجيات المستخدمة في المراقبة على المواطنين، وغيرها من أنشطة الأمن السيبراني؛ ما من شأنه أن يغير أشكال المراقبة وأنماط الهجمات التي نراها في الشرق الأوسط، سواء بحجب المواقع الإلكترونية أم الاستهداف المباشر؛ أي تعرقل قدرة حكومات تشتري هذه التقنيات لمراقبة شعوبها، وكذلك تعرقل قدرات جماعات وعصابات تنشط من مناطق غير خاضعة لسلطة مركزية قوية على شنّ هجمات إلكترونية ضد أجهزة حكومية في الدول الغربية، أو شركات عالمية ضخمة؛ يعني أن هذه القدرات الإلكترونية أصبحت السلاح التخريبي الأفضل في أيدي “الضعفاء” بالعالم.
“الناتو” بمواجهة الصين
لم تكتفِ أمريكا في حربها السيبرانية مع الصين بنفسها، لكنها جعلت حلف «الناتو» يصطف معها؛ حيث قال أعضاء حلف شمال الأطلسي، في بيان، في 14 يونيو الماضي: إن «طموحات الصين المعلنة وسلوكها المتواصل تشكّل تحدّيات لأسس النظام الدولي المستند إلى قواعد أمن الحلف».
وفي المقابل، لم يتأخر رد فعل بكين؛ إذ سارعت إلى اتهام دول حلف شمال الأطلسي بنهج عقلية «الحرب الباردة وسياسة التكتل»، على حد تعبير البعثة الصينية لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، ودعت دول الحلف إلى التوقف عن المبالغة في نظرية التهديد الصيني.
ويذكر أن سبب تدخل «الناتو» في هذا الصراع أن الولايات المتحدة تحتاج إلى شبكة قوية من الحلفاء والشركاء للمساعدة في توفير التوازن مع صعود بكين، كما كان عليه الأمر إبان الحرب الباردة مع المعسكر السوفييتي؛ فالغرب يرى أن الصين تعمل على إعادة تشكيل النظام العالمي بأسلوب من شأنه إلحاق الضرر بالمصالح الحيوية للقوى الغربية، وقد يعزز نموذج الدولة المستبدة ويضر بالديمقراطيات ودورها في العالم.
وكما في الحرب الباردة ضد المعسكر الشيوعي، تبدو الكتلة الأوروبية سواء من حيث ثقلها البشري والعسكري والسياسي الحليف الأقرب الذي يتقاسم مع الولايات المتحدة نفس القيم، في وقت تسعى فيه الصين بدورها لبناء تكتل اجتذبت إليه روسيا وإيران.
وعلى المستوى العسكري، تحول بحر الصين الجنوبي إلى ساحة مواجهة بين واشنطن وبكين؛ حيث تدعي الأخيرة سيادتها البحرية عليه.
ويربط محللون بين البعدين التكنولوجي والعسكري في الإستراتيجية الأمريكية ضد الصين على ضوء الأمر التوجيهي الذي أصدره وزير الدفاع الأمريكي «لويد أوستن» إلى البنتاجون، وطالبهم فيه بتكثيف تركيزهم على الصين.
وينظر الأمريكيون إلى الصين باعتبارها منافساً عسكرياً وتكنولوجياً، وبالنسبة للأوروبيين؛ فإن الصين تمثل سوق نمو ضخمة بالنسبة لشركات الهندسة الميكانيكية والكيميائية والسيارات، وهي حقيقة تبدو أكثر جلاء في زمن ما بعد «كورونا».
ولكي نفهم مدى خطورة هذه الحرب وسر اهتمام أمريكا بها، نشير لما كتبه المفكر الأمريكي الشهير «جوزيف ناي»؛ حيث قال: إن «الخوف من هجوم سيبراني على غرار «بيرل هاربر» (شنّته طائرات يابانية على الأسطول الأمريكي قبالة جزيرة هاواي في المحيط الهادئ قبل نهاية عام 1941م، وبسببه دخلت أمريكا الحرب العالمية الثانية) يهدد العالم».
الآن صُناع السياسات مهمومون باحتمالات من قبيل إقدام «الهاكرز» على تفجير أنابيب النفط، وتلويث إمدادات المياه، وفتح بوابات السدود، وإرسال الطائرات على مسارات تصادم باختراق أنظمة مراقبة الحركة الجوية، وربما شبكات الطاقة الكهربائية وتفعيل أسلحة نووية!