يأتي هذا المقال استكمالاً للمقال السابق في بيان علاقة السُّنة النبوية بالحضارة الذي استعرضنا فيه علاقة السُّنة النبوية بالمعرفة وتوجيهها لصانع القرار واحتفائها بالحياة.
وفي هذه السطور نستكمل الحديث.
السُّنة والحضارة والعمران:
كما أنها الحضارة التي تحض على العمران قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ».. وتشجع على إحياء الأرض وتجعل مكافأة ذلك تمليك ما استطاع الإنسان المجد أن يصلحه من الأرض الموات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن أعْمَرَ أرضاً ليْسَتْ لأحَدٍ؛ فهو أحَقُّ”. قال عُروةُ: قضى به عُمَرُ رضي الله عنه في خلافته.
بل تجعل عمارة الأرض من الباقيات الصالحات التي تدر على العبد أجوراً عظيمة بعد أن يفارق الحياة قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم: سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وهي الحضارة التي تحض على العمل حتى في آخر لحظات الدنيا.. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ”، وقد استمعت لأحد الأكاديميين الذين شغلوا مناصب محلية وإقليمية ودولية وتجاوز الثمانين عاماً استمعت إليه وهو يقول لازلت أعمل يومياً عشر ساعات عندما تنظر إلى نماذج كهذه عاشت حياتها على الجد ومهما بلغت من العمر لا زالت تعطي وتسعد بالعطاء ثم تنظر على شاب موفور الصحة والوقت لكنه يشعر بضغط العمل ويشكو المشقات التي تواجهه كيف لمثل هذا أن يوفر متطلباته الأساسية كيف له أن يؤسس أسرة ويلبي احتياجاتها، أنظر إلى هؤلاء وأتذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالجُبْنِ وَالهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ”
والسُّنة النبوية التي أسست لحضارة عظيمة لا تكتفي بمجرد العمل الجاد المضني بل تحث على الإتقان جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ فَجَعَلَ يَقُولُ: «ضَعُوا الثَّرَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَضَعُوا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ» حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: “أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى التُّرَابِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ عَبْدُهُ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ”.
وتفتح الباب على مصراعيه لكل صاحب موهبة على إنجاز العمل على أحسن الأحوال عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ، قَالَ: فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ عَمَلُهُمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْمِسْحَاةَ، فَخَلَطْتُ بِهَا الطِّينَ، فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ أَخْذِي الْمِسْحَاة وَعَمَلِي، فَقَالَ: “دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ، فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ”.
عن عبد الله بن زيد أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ كَيْفَ رَأَيْتُ الْأَذَانَ فَقَالَ: “أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا”، ومع تقديم الحضارة الإسلامية لكل صاحب موهبة وقدرة على الإنجاز لا تهمل أي عمل من الأعمال الصالحة مهما كان صغيرا في نظر صاحبه بل تحث على إكبار كل عمل عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»، وكلمة المعروف كلمة واسعة تشمل كل أبواب الخير التي يمكن أن تضيف لرصيد الإنسان في بناء الحضارة وسعيه لرضوان الله تعالى
مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “وَمَا سَبِيلُ اللهِ إِلَّا مَنْ قَتَلَ؟ إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَتَفَاخُرًا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ”، في هذا الحديث يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتساع مفهوم في سبيل الله ليشمل مجالات عدة في الحياة.
السُّنة والحضارة والظروف الصعبة:
وهي الحضارة التي تتغلب على الظروف المعيشية الصعبة بالتكافل والعمل قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ”.
وأصدق مثال على حث السُّنة النبوية على العمل عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟» قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا»، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟» قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا»، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ،»، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا»، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ ” كيف تقوم حضارة لأمة تمسك ما بيدها ولا تتعاون على ما ينفع بعضها بعضاً كيف تقوم حضارة لأمة تتكاسل عن العمل وتمد يدها لطلب ما تحتاجه لو اجتمعت الأثرة والكسل والتسول على أعظم الحضارات لهدمتها.
وختاماً قبل أن نتفاخر بإنجازات الحضارة الإسلامية التي قامت على السنة النبوية ينبغي أن نفاخر بالنصوص المؤسسة لقيام هذه الحضارة وقيمها ونتساءل هل بإمكاننا الاعتماد على مثل هذه النصوص وما تفرزه من قيم لاستئناف مسيرتنا الحضارية وتعديل مسارنا وتجاوز العقبات الداخلية والخارجية؟