في المقال السابق، استعرضنا تفاوت ردود الفعل أمام استقبال الحوادث المأساوية التي تصيب المسلمين في الشرق والغرب، والخطاب الذي يتجاهل واجب المستضعفين وما كان بين ذي القرنين والمستضعفين المتضررين من إجرام يأجوج ومأجوج ومناقشة من يتصور أن الاستضعاف قدر لا انفكاك منه ومفهوم تداعي الأمة بالسهر والحمى إذا أصيب عضواً من أعضائها بما يؤذيه.
وإذ نتأمل في المنهج النبوي في التعامل مع مرحلة الاستضعاف نجد عدة ملامح منها:
1-الدعاء: قال صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر” َ[صحيح البخاري].
2-البشارة: قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ وَمُعْطِيكُمْ حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ فِيمَا بَيْنَ يَثْرِبَ وَالحِيرَةِ أَوْ أَكْثَرَ مَا يُخَافُ عَلَى مَطِيَّتِهَا السَّرَقُ” [سنن الترمذي].
3-البحث عن مخرج: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41، 42]، قال صلى الله عليه وسلم: “لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا” [سيرة ابن هشام].
4- البحث عن نصير: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتَّبِعُ النَّاس فِي مَنَازِلهمْ، عكاظ ومجنة، فِي المواسم، يَقُولُ: “مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَة ربى وَله الْجنَّة” [السيرة النبوية لابن كثير].
5- تحقيق النموذج الرائع في الصبر والثبات مما يدعى الأعداء إلى إعادة النظر: عن أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَتْ: وَاَللَّهِ إنَّا لَنَتَرَحَّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بعض حاجاتنا، إِذا أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ -قَالَتْ: وَكُنَّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلَاءَ أَذًى لَنَا وَشِدَّةً عَلَيْنَا- قَالَتْ: فَقَالَ: إنَّهُ لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ وَاَللَّهِ، لَنَخْرُجَنَّ فِي أَرْضِ اللَّهِ، آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ مَخْرَجًا، قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمْ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ -فِيمَا أَرَى- خُرُوجُنَا. [سيرة ابن هشام].
إننا نغفل عن قوة الحق التي يحملها في ذاته والتي تخيف كل صاحب باطل ففرعون مع ما كان يملك من قوة وبطش؛ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] وقال الكفار عن القرآن: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ولما عاد الصديق في جوار ابن الدغنة وكان إذا قرأ القرآن اجتمع عليه النساء والصبيان والعبيد فطلب كفار قريش من ابن الدغنة أن يمنع الصديق من تلاوة القرآن لأنهم خافوا أن يصل صوت الحق لهؤلاء فينضمون إلى من أسلم.
وبينما يكثر الحديث عن الاستضعاف ويجري ترسيخه عن جهل أو عن قصد يتوارى الحديث عن فقه الاستخلاف ومؤهلات الإنسان المستخلف ودوره في عبادة الله وعمارة الكون زعماً أن المرحلة التي تمر بها الأمة هي مرحلة الضعف والتشرذم، وأن الحديث عن الاستخلاف في مثل هذه الحالة ضرب من العبث أو الخيال، وإذا قلت متى يكون للشمعة قيمة في الظلمات الحالكة أو في ضوء الشمس الساطعة إذا طلع الصباح تطفئ كل القناديل.
وإذا سألت ومتى يأتي الحديث عن فقه الاستخلاف قيل لك: عندما تتوافر شروطه، وإذا سألت ومتى تتوافر شروطه؟ أجابوك بقائمة من الآيات والأحاديث وقواعد الاجتماع دون أن يبينوا لك كيف ننتفع بمثل هذه التوجيهات، ثم إن هذه الشروط إذا توافرت حدث الاستخلاف فما الداعي حينها للحديث عنه والواجب على مثقفي الأمة ودعاتها الحديث عن الواقع والحديث عن المستقبل معاً وإرشاد الأمة إلى ما ينبغي عليها لكي تتحرر من كل عبودية وترتقي إلى ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والمواقف؟!
يظن البعض أن فكرة الاستخلاف تقوم على منازعة القوى القائمة وإعلان الحرب على الجميع.
إن الاستخلاف هو القيام بالمهمة التي كلف الله تعالى بها الإنسان؛ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ليؤدي دوره في عبادة الله وعمارة الكون هذه العمارة تتم وفق منهج رباني أخلاقي يقوم على التراحم والإحسان والعدل والتعايش ويؤسس على الأخوة الإنسانية يحرم فيه العدوان والظلم وتسخر القوى فيه لخير الإنسانية يشعر فيه الضعفاء أن لهم من الحق والقوة ما يمكنهم من الحياة مرفوعي الرأس مكفولي الكرامة ينالون حقهم من الخير الذي أودعه الله في الكون دون مَنّ أو أذى ودون حاجة للتذلل أو الاحتيال.
إن القوة شعور والضعف كذلك شعور يغذيه إحساس عام وكلمات من هنا وهناك وتحقيق لنجاحات أو وقوع في إخفاقات وإلقاء للضوء على سقطات وإجراء الحوارات التي تكبر الصغير وتعظم الحقير والعكس.
ينبغي إدراك مكامن القوة ونقاط الضعف ولا يكون ذلك إلا بوجود إحساس عال وعقل ذكي ودراسة مستمرة لكل موقف وربط الأحداث بعضها ببعض وإدراك العدو من الصديق والمتفرج الذي ينتظر قطار الأقوياء ليلحق به أو على الأقل يصفق عند مروره والنظر بعين الاعتبار للظروف المحيطة التي تؤثر سلباً أو إيجاباً علينا.
إذا كنا نؤمن بأن القوة رزق من الله فالله تعالى يقول {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، إذا كان البعض يؤمن بأن الاستضعاف هو قدر المؤمنين بالله فإن الله تعالى يقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
إن الخروج من دائرة الاستضعاف إلى عز الاستخلاف أمر يتطلب التضحيات العظيمة ويحتاج إلى صبر جميل وحسن ظن بالله وفكر واع وإرادة صلبة وتعاون صادق وإخلاص للمبدأ ومحبة بين العاملين للحق.
إن تحقيق الاستخلاف هو المناسب لتكريم بني آدم وتفضيلهم على كثير من خلق الله وهو المؤهل للقيام بمهمة الرسالة الإسلامية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وعلى كل فرد مسلم أياً كان موقعه في السلم الاجتماعي دور على قدر ما مكنه الله وبقيام كل مسلم بما عليه وتكامل هذه الأدوار نصل إلى مستوى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
وفي سبيل تحقيق الاستخلاف:
1- ينبغي أن يعلم الجميع أن واجب تحقيق الاستخلاف هو واجب كل مسلم حسب ما أعطاه الله من قدرات وإمكانات.
2- وأن على أهل الفكر والثقافة من كتَّاب وأدباء وإعلاميين تقديم فكرة ولو بسيطة يتداعى الجميع إلى تحقيقها كل حسب قدرته وما يحسنه من مهارات الحياة.
3- وأن كل خطوة مهما كانت صغيرة تقترب من الهدف ينبغي الثناء عليها ودعمها حتى تكبر.
4- إن غياب فكر الاستخلاف يؤثر في الفكر والحركة ويعوق عن كثير من العمل وهو حرمان من أداء الإنسان لرسالته وحرمان للإنسانية من جهود مبنية على الأخلاق تسعى لتحقيق الحب والخير والجمال والعدل والرحمة بين بني آدم.
5- لاشك أن للاستخلاف ثمناً باهظاً، لكنْ للاستضعاف أثمان يدفعها الفرد كما تدفعها الأمة، وإذا كان الإنسان سيدفع على كل حال فليكن الثمن المناسب للحياة المناسبة والحياة أخذاً وعطاء.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].