من القضايا التي أثارت لغطاً كثيراً بين عموم المسلمين قضية خروج المرأة المسلمة للعمل، فوجدنا من بين المسلمين من يرى حرمة خروج المرأة من بيتها إلا لضرورة ملحة، بل إن البعض تطرف في رأيه وقال: إن المرأة لا يجوز لها أن تخرج من بيتها إلا مرتين فقط، مرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والأخرى إلى قبرها! ونسي هؤلاء أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء الصحابة كل هؤلاء كنَّ يخرجن من بيوتهن إلى المسجد، وإلى الجهاد وإلى النخيل وإلى السوق لقضاء حوائجهن، ولقد ثبت في صحيح السُّنة عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها”، وفي رواية: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”، وفي رواية: “ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد”(1).
وفي المقابل، وجدنا من يرى أن للمرأة الحرية المطلقة في الخروج من البيت متى شاءت وكيفما شاءت دون ضوابط، سواء كان الخروج للعمل أو لغيره.
عمل المرأة والمساهمة في بناء المجتمع.. بين القبول والرفض
ولبيان موقف التشريع الإسلامي من هذه القضية نحتاج إلى شيء من التفصيل على النحو التالي:
أولاً: إن الله تبارك وتعالى عندما خاطب الناس، خاطب الرجال والنساء، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء: 1)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، وهذا الخطاب يؤكد لنا أن المرأة صنو الرجل في خطاب التكليف الشرعي، كما أن الله تبارك وتعالى جعل الرجل والمرأة شريكين في مهمة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71).
ثانياً: يجب أن نقرر أن عمل المرأة الأساسي والرئيس الذي تفخر به، وهو عمل مقدس، ويحقق السعادة لها ولزوجها ولأولادها، ويقدم أعظم الثمرات للمجتمع، هو رعاية البيت، وحسن التبعل لزوجها، وحفظه في ماله وعرضه وولده، وتربيتها لأولادها والتكفل بالإشراف الكامل عليهم، بداية من الرضاعة والحضانة ثم الإشراف على التربية والدراسة وإعداد المواطن الصالح الذي يخدم وطنه.
والعجب كل العجب من هؤلاء الذين يصفون المرأة غير الموظفة بقولهم: دون عمل! مع أن المرأة التي تفرغت لتربية أولادها وخدمة زوجها تؤدي أقدس الأعمال.
الرسالة الأولى للمرأة المسلمة إدارة الأسرة والحفاظ على استقرارها
ثالثاً: لا يستطيع أحد منا أن ينكر عمل أمهاتنا وأخواتنا قديماً في البساتين والمزارع، وفي البرية والبيدر(2)، وحتى في مساعدة الزوج في بناء البيت والدار، ووراء المغزل وآلة الخياطة وغير ذلك، ونذكر في هذا الصدد موقف السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما حيث تقول: “تزوجني الزبير وما له شيء غير فرسه، فكنت أسوسه وأعلفه، وأدق لناضحه النوى وأستقي وأعجن، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي -وهي على ثلثي فرسخ- فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر، فدعاني، فقال: إخ، إخ، ليحملني خلفه، فاستحييت، وذكرت الزبير وغيرته، قالت: فمضى، فلما أتيت، أخبرت الزبير، فقال: والله لحملك النوى كان أشد عليَّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني(3).
وهكذا تُعلمنا السيدة أسماء رضي الله عنها درساً في مساعدة الزوج ومشاركته اهتماماته والتخفيف عنه متاعب الحياة.
رابعاً: أما بالنسبة لعمل المرأة في العصر الحديث، فلا يستطيع أحد أن ينكر على المرأة التي تلتزم بدينها وحجابها عملها في مجال الطب والصيدلة والهندسة والأدب والتربية والتعليم، بل لا يستطيع أحد أن ينكر على المرأة ظهورها في وسائل الإعلام كمذيعة محجبة أو محاورة أو مناظرة.
الله تعالى جعل الرجل والمرأة شريكين بمهمة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
خامساً: التشريع الإسلامي لا يرى مانعاً من خروج المرأة للعمل، لكنه وضع لهذا الخروج ضوابط وآداباً على النحو التالي:
1- الالتزام بالآداب الشرعية، وسائر الأحكام، وهذا ما نراه في بعض المهن، فالأطباء يلتزمون بلباس أبيض، والمهندسون يلتزمون بارتداء قبعة حماية الرأس، وكل مهنة وحرفة يلتزم أصحابها بلباسها وآدابها.
وهنا ينبغي علينا أن نُذَكِّر بضوابط اللباس الشرعي للمرأة المسلمة إذا أرادت الخروج من البيت، وهي على النحو التالي(4):
أ- أن يكون اللباس ساتراً لجميع البدن، ليستر العورة، ويستر الزينة التي نهيت المرأة عن إبدائها للرجال الأجانب، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب: 59).
ب- أن يكون اللباس واسعاً مريحاً لحركة أعضاء البدن، فلا يجوز أن تلبس المرأة اللباس الضيق الذي يصف مفاتن الجسم عند الأجانب، ويحرم عليها لبس البنطلون؛ لأنه من الثياب الضيقة التي تحدد أجزاء الجسم، ولما فيه من الفتنة، والتشبه بالرجال، والتشبه بالكافرات، ولما فيه من الشهرة والخيلاء.
جـ- ألا يشبه لباس الرجال في الزي والطول؛ فلباس الرجال فوق الكعبين، ولباس النساء أسفل الكعبين ليستر القدمين، فيحرم على النساء لبس القصير من الثياب، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، فقالت أم سلمة: فكيف يصنعن النساء بذيولهن، قال: «يرخين شبرا»، فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: «فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه»(5).
الإسلام لا يرى بأساً بخروج المرأة المسلمة للعمل والمساهمة في بناء المجتمع لكن بضوابط
د- ألا يشبه لباس الكافرات، فمن تشبه بقوم فهو منهم، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: «إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسها»(6).
2- مراعاة طبيعة المرأة بإعفائها من بعض الأعمال الشاقة المرهقة، أو الأعمال والمناوبات الليلية، ويتغلب جنس النساء في التمريض والتعليم والصيدلة مثلاً، ويضعف في الهندسة وغيرها.
3- وجوب مراعاة القيم والأعراف، فأي عربي أو مسلم الآن يرضى أن تعمل أمه أو ابنته أو زوجته بكنس الشوارع، والنظافة العامة، وتسليك المجاري؟! مع أنها تعتبر قمة وأصلاً في تأمين نظافة البيت واللباس.
ولقد أعطى الإسلام المرأة جميع الحقوق الأساسية التي يتمتع بها الرجل، فلها حق الحياة وما يتفرع عنه من حرمة القتل والانتحار، وعدم الإذن بالقتل، وإباحة المحظورات للحفاظ على الحياة مع الحرص على الكرامة الإنسانية، ولها كذلك حق المساواة أمام الشرع والقانون، وما يتعلق بالوحدة الإنسانية، ومنع وتحريم ممارسة التفرقة العنصرية نحوها، ولها أيضاً حق التدين والاعتقاد والتسامح والتعبد وممارسة ذلك في بيوت العبادة، ولها كامل الحقوق السياسية التي يتمتع بها الرجل.
التشريع الإسلامي ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات
ولقد تمت صياغة الحقوق السياسية للمرأة ضمن الدساتير والتشريعات الوطنية في كثير من الدول الإسلامية، على أن تكفل الدولة لها جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة الكاملة في الحياة السياسية وإزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع، وأبرز هذه الحقوق: حق الاقتراع والانتخاب والترشيح، حق تقلد المناصب العليا ومباشرة الوظائف العامة، حق المشاركة في الأحزاب وفي العمل الاجتماعي.
وبذلك يتضح لنا أن للمرأة في الإسلام مكانة كريمة، فقد كفل لها جميع حقوقها، ورعاها في جميع أطوار حياتها، موصياً بها الأب في حال كونها ابنة، والزوج في حال كونها زوجة، والابن في حال كونها أماً، والمتتبع لأحداث المرحلة الزمنية الراهنة التي تعيشها مجتمعاتنا الإسلامية وما يشن من غارات فكرية وهجمات شرسة لنشر المفاهيم الغربية الفاسدة ولا سيما ما يتعلق بالمرأة؛ ليدرك خطورة الوضع الراهن، خاصة مع هيمنة الحضارات الغربية، وتعلق دعاة التغريب بها.
وختاماً، وبعيداً عن عمل المرأة في خدمة المجتمع، ينبغي ألا ننسى دورها في التماسك الأسري داخل الأسرة، ولن يكون ذلك إلا من خلال استقرار المرأة النفسي والاجتماعي لينعكس أثره على الأهل والأبناء، فالدفء الأسري رابط قوي ومهم في بناء المجتمع، وبدونه تنهار الأسرة المسلمة، وهو السبيل الوحيد لبناء أسرة سعيدة، وله الدور الكبير في الاستقرار النفسي الذي ينعكس على حياة كل فرد لديها، فيكون سعيداً وناجحاً، وفرداً بنّاءً إيجابياً في المجتمع.
____________________________________________
(1) حديث ابن عمر أخرجه مسلم (442)، وأخرجه البخاري في “كتاب النكاح” “باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره” (5238).
(2) البَيدَر: اسم والجمع: البيادِرُ، وهو موضع يُجمع فيه القمح ونحوُه ويُدرَس.
(3) سير أعلام النبلاء، ص 291.
(4) موسوعة الفقه الإسلامي، محمد بن إبراهيم بن عبدالله التويجري، 4/94.
(5) صحيح، أخرجه الترمذي برقم (1731)، وهذا لفظه، وأخرجه النسائي برقم (5336).
(6) أخرجه مسلم برقم (2077).
(*) من علماء الأزهر الشريف.