يرن الصوت في تتابع، يلفح الصيف وجوه المارة، لا وجود لصريخ ابن يومين، بل حتى لا يفكر في مغادرة بيته المنزوي وراء تلال الخوف والفقر، حتى كلاب السكك الضالة تلهث وتعبّ من بركة الماء الصفراء، كان ثمة فيضان، منذ أعوام لم يتجدد ماؤها، تقال حكايات: إنهم بنوا سداً عالياً عند بلاد النوبة، ستأتي الخيرات لاحقاً؛ هذه تميمة جدتي: كف مبتور مخلوط بدم أضحية العيد، لكنه يأتي على أية حال، وراءه سر يغلفه بألف حكاية، الفقراء يدخلون الجنة مبكراً، هذه كلمات الشيخ في ليلة النصف من شعبان، حين يتوقف المكان بسكانه، تزدحم أبواب السماء بأدعية المبتهلين، أراه كل يوم يجوب الحارة، يجتاز الأزقة المسكوكة عمداً؛ تنتهي بباب سد، يحمل جوال الملح، وللعرق في الصيف عناء، تلفح وجهه النار، تدفعه الحاجة إلى أن ينادي على بضاعته الكاسدة؛ ترى من يشترى الضنى وقد امتلأت الحياة رهقاً: يا مصلح يا ملح!
صغيراً تبعته مثل ظل أعواد الذرة كنت أنا ذلك المغطى بكساء أزرق مثل النيل يوم كان يتهادى يحب المحروسة، يقبل شفتيها
ينظر إلى نافذة نصف مشرعة، تخرج يد بيضاء حلوة مثل حليب بقرة جدي، منديل يهفو به ألوان زاهية، حواشيه مطرزة بالخرز الفضي اللامع.
ينادي مرة ومرة، مصلح يا ملح!
تأتي في وهج الظهيرة، تحمل وعاء من خزف، تتمايل في دلال، يناغم بصوته: ناعم يا ملح!
تتراقص في مشيتها.
تصدر أبواب الحارة صريرها، تخرج همهمات والهة، تحدق عيون عطشى، ينساب العرق قطرات حارقة، يأتي صوت عجوز وقد أخرجها الخوف، تضرب الأرض بعصاها، تدوي في التراب خطواتها، تتماسك، تبتلع ريقها، تلوذ هرباً.
يترك ملحه، يجرى في الناحية، يسقط منه كيس نقوده، تتناثر قروشه، نجري وراءه، نلهو بكلماته:
مصلح يا ملح..
ناعم يا ملح!
يتورد خداها، مثل الورد الأحمر وقد غازله الندى!
ابنة عشرين عاماً، حلوة، بل أجمل البنات، نظل نجري ونلعب، يأتي رمضان نتغنى بكلماته، نسهر طوال الليل؛ فالحارة آمنة من العفاريت، لقد ربطها بسلسلة أكبر من قضيب القطار المصري؛ هكذا قال مولانا في الكتاب.
أم رمضان وراء الكوم تزرع ثوم!
“يا خالة يا أم رمضان قومي اتسحري، بالجرجير والعيش الطري”.
نتجمع حين يهدنا التعب عند ضفة النهر، لن تخرج الجنية؛ إنه شهر مبارك، تصوم بالنهار، وتغازل القمر ليلاً.
ننزل الماء، نمسك بالأسماك الصغيرة، نتذكر حكاية بائع الملح، نقلد حركاته، تضحك كما لو أن السماء أخرجت عصافير الجنة الخضراء تلهو.
من بعيد يأتي حاملاً عصاه، إنه لا يعرف رمضان، يمسك بنا، تتابع ألفاظه مثل كوم السباخ سكنته الفئران، نجري في الحارة، لكننا لا نسكت، نظل نغني:
مصلح يا ملح..
ناعم يا ملح!
مضى أربعون شهراً، واحداً وراء آخر، بي للعب حنين؛ أرتدي الثوب الأزرق بلا سروال، أطلق ساقي تدب، ترى أين هي الآن؟!
أما تزال حمراء الخدين؟
يبدو أن الملح صار مجعداً مثل صوف الشاة، ضمر ثدياها، كانا مثل حبتي الرمان، تمزق منديلها ابتلعه البحر بملوحته.
انطفأت بلادي.
أم رمضان ما عادت تأكل الخبز الطري، مثل أعواد الحطب تذروها الريح كل مكان.
أبحث عنها فلا أجدها، يقال: إنها صعدت فوق تلة جادو تبحث عن ضوء القمر الذي سرقه بائع الملح!