طبعا أنتم تعرفون حكايته، إما من الصحف اليومية أو حتى من برامج التلفاز التي تكثر فيها الثرثرة مساء؛ يطعمون الجوعى بكلامهم المعسول، ربما رآه بعضكم أو جلس معه، أنا بدوري سمعت به، إنه أشهر رجل في كفرنا؛ وإن كنت حتى الآن لم ألتق به، قيل لي: إنه برجل واحدة، وبعين من حجر، لا أعلم بالضرورة أي العينين، كل ما تناهى إلى سمعي: قدرته العجيبة في صعود النخلة الرابضة عند ضفة النهر، ومن ثم يقفز إلى وسطه ويأتي بسمكة واحدة كل مرة؛ لا نجد لها مثيلا، لها زعنفة وذيل ذهبي طويل، كلما وضعها واحد من الذين يرفضون ولايته وإلى الآن تدور مناوشات حول سره الباتع، يراه المجاذيب في الكفر ولي الله المختار، تراقصت على الجمر، فتحت فمها وحركت ذيلها ومن ثم طارت حتى تلقي بنفسها هي الأخرى في النيل.
“جاء بالله” -وهذا لقبه الذي عرفه به الدراويش- يلبس جلبابا مشقوقا من أعلاه، يشد وسطه بحزام أخضر، ومؤكد أنه بلا سروال إلا لفافة من خيش وجدها عند كومة عظم الهرابيد حيث تتخلص النسوان من البقايا، يمرح في الكفر ويجري ويلعب مع الصغار؛ تغمزه الفتيات؛ يقرأ لهن الطالع، لكنه يعرف خبثهن، حين يتندرن على لفافته التي بين فخذيه؛ يجري ويقهقه حتى تحسبه أصيب بصرعة. أنفه كبير تتدلى شفتاه مثل جمل السنباطي؛ كان أبي حين يحلو له الحديث يصفه هكذا، وجهه أسود تومض عيناه في ظلمة الليل، تحسبه جنيا وقد سكن الطريق؛ تخيف به الأمهات الصغار حتى يناموا، كل حركة نحسبه قد جاء يتراقص فوق أجسادنا التي تكومت أرتالا فوق بعضها؛ تدب البراغيث فوقنا ونحسب أن “جاء بالله” يناوشنا ويكاد يخنقنا، نصمت ولا نتحرك فزعا؛ بيتنا بلا باب؛ قد يتسور علينا الحجرات الطينية.
يدخر حكايات غريبة؛ يلهو بها عند ضفة النهر حين يخرج، يخبرهم أنه رأى الخضر، أعطاه وعدا بالولاية، لا يتعجل زمانها، ففي البيت الأبيض لكل المجاذيب مقاعد حتى ولو كانت في بلاد الواق واق؛ جعل الله كلامي خفيفا عليهم.
ليتني كنت مجذوبا حتى ولو لبنت محجوب كما ذكر ولي الله الطيب صالح.
منذ سنة حدث له أمر غير متصور؛ اختفى العمدة ولا ندري أين؟
من قائل: مات غريقا؛ أو حبسه مأمور البندر في الدوار؛ آخرون أقسموا بالله أنه سافر إلى الحجاز؛ امرأة تحج أخبرتهم: إنها رأته هناك؛ مضت شهور وغير معقول أن يظل الناس دون كبير لهم يهبهم السياط تشوي ظهورهم، لا ينامون حتى يغلق عليهم الباب، ومن ثم يرسل أشياعه يأتون إليه بمن تلهب ليله.
اجتمع الناس في الزاوية عند جميزة فاروق، ما أزال أتذكرها؛ كانت تربض مثل حارس أمين، نصعد فوقها ونجد عش العصافير واليمام.
قرروا أن يجعلوا “جاء بالله” عمدتهم؛ وحده يعرف الحكمة؛ ليست له زوجة ولا ولد؛ لن يطمع في جرن القمح، سمكته العجيبة – تمنوا أن تطعمهم الشواء- يهبونه بيتا ويلبسونه ثوبا؛ مزين الصحة يحلق له شعر رأسه؛ يترك شاربه، يحضرون له سروالا طويلا، حمار حصاوي يجوب به دائر الناحية؛ يكتفون به خيال مآتة حتى لا تشمت بهم الكفور المجاورة؛ في البلاد عار أن تكون بلدة بلا عمدة!
أسروا إليه بالنبأ، تراقص طربا؛ امتنع عن صعود النخلة، تمردت السمكة ذات الذيل الذهبي، جلس في الزاوية تخايله دار العمدة بما فيها من بقر وخيل وحمير، خزانة الأوراق المكدسة؛ أجولة القمح؛ الحمام والدجاج، الخفراء وهم يحملون له النعل، الجلباب الكشمير، طاقية من لبدة الغنم الرحماني، في الواقع لم يشته أنثى؛ كان بلا خصيين، يقال إن الغجر هكذا يفعلون بمن يجدونه بلا نفع منهم.
دارت الأيام وصار “جاء بالله” حكيما، يعرف النمل ذكره من أنثاه، يصنع لهم خبزا محشوا بالعدس والفول مع البصل، يصعد منبر الجامع القبلي، يتقدم الكفر في العيد؛ يطوفون به نيل البركة، انقطع المطر؛ أوشك الزرع أن يموت؛ وﻷنه حكيم: أمرهم أن يخلطوا ماء البحر بماء النهر؛ الناس وقد وجدوا الطوفان يدخل عليهم من كل باب؛ ماء مالح أحاط بهم، غرق الكفر، ومن يومها و”جاء بالله” يسكن أعلى النخلة العجوز!
ولي من أولياء الله الصالحين؛ يقيمون له الموالد؛ شاعر الربابة يغني له أحسن المواويل!
ومن يومها والنخلة العجوز دبت فيها الحياة يطعمونها السكر، يزينونها برايات أهل الطريق، يتمسحون بالموضع المبارك؛ لكن النهر عقيم تنعق فيه الغربان!