إن قضية توريث الدعوة، وبناء جيل يحمل هَمَّ الأمة، وصناعة الوارثين المؤمنين بضرورة العمل لهذا الأمل الدائم، والهدف المنشود، والمقصد النبيل، من المسائل المهمة التي ينبغي على الإسلاميين العناية بها، مع جعلها في سلم الأولويات أثناء التخطيط ووضع البرامج، ورسم الإستراتيجيات؛ ذلك أن هذا الأمر هو التعبير الصادق عن حسن الفهم، وديمومة الغيرة، وبركة المضي، وعدم الانقطاع، وأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل، والانقطاع إشكالية من إشكاليات العمل إن وقع، وتترتب عليه جملة من المشكلات الأخرى على طريق الدعوة.
فالتفكير العميق، والتخطيط الدقيق، والشعور بالمسؤولية، والإحساس بثقل الأمانة، يستلزم بناء جيل يكون قادراً على المضي على طريق المشروع، وبهذا الجيل -قرة العين- تكون الطمأنينة إلى أن المشروع بخير؛ ذلك أن الله تعالى جعل هذا المنهج للبشر، وأمرهم أن يكونوا أدوات الفعل، مع عناية الله تعالى ورعايته، وتوفيقه وعونه؛ فالله يريد منا أن نأخذ بأسباب النصر، وقيم التمكين؛ فالنصر لا يكون للخاملين والكسالى والراقدين والمهملين والمتواكلين والمقصرين، بل يكون للعابدين العاملين؛ فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
وهكذا في الشؤون كلها، وكم يفرح الأعداء بغفلة الصالحين، ويطربون لها، ويصفقون ويفرحون، بقدر ذلك يحزن غيرهم من الناشطين الفاعلين، ويتألمون من الذين يأخذون بأسباب القوة، وتجميع الشيب والشباب، من الذكور والإناث على مشروع الخير، من خلال عمل مؤسسي ناضج.
الجيل الرباني الفريد
وفي العودة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أن الله تعالى بعث رسولنا خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالحق المبين؛ ليكون للعالمين بشيراً ونذيراً، ومربياً ومعلماً؛ (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 151)، ورحمة للإنسانية كلها؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
وهذا الأمر الكبير (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل: 5)، كان لا بد له من جيل يحمله، ويعمل على تطبيقه؛ ليكون واقعاً عملياً، بهذه الثلة التي تحمل مبادئه وتعاليمه، وتلتزم به.
فعمل النبي صلى الله عليه وسلم على صناعة هذا الجيل «حامل المشروع»، حتى كان ذلك الجيل الرباني الفريد، جيل الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك من خلال أطوار متدرجة: الدعوة سراً، وما دار الأرقم بن أبي الأرقم وما فيها من معاني التكوين وبناء جيل العاملين للإسلام آناً ومستقبلاً إلا دليل على هذا، حتى صارت علناً، «فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع مع المسلمين سراً؛ نظراً لصالحهم وصالح الإسلام، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا، وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان أن اتخذها مركزاً لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين» (بتصرف يسير من «الرحيق المختوم»، ص 80).
قال تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح: 29).
هذا الجيل المتميز هو الذي حمل عبء الدعوة، وهَمَّ العمل الإسلامي، بجانب نبيهم ورسولهم، فهم الذين آمنوا وصدقوا، وآووا ونصروا، وضحوا وبذلوا، فكانوا منارات كبرى في خدمة هذا الدين، والجهاد من أجل نصرته، هم الذين صبروا وصابروا ورابطوا، وتحملوا المشاق الكبيرة، وثبتوا في مواجهة الباطل والطاغوت، هم الذين نقلوا القرآن الكريم لمن بعدهم، وهم العدول الذين بلَّغوا سُنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن بعدهم، وهم الذين نشروا الدين في آفاق الدنيا، وقبور كثير منهم منتشرة في البلدان، برهان على هذا الذي ندندن حوله.
والصحابة الكرام، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، حملوا على عاتقهم حركة المضي على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على قدمه؛ فكانوا نعم من حمل هذه الأمانة وأدى حق الله تعالى فيها.
التابعون وتابعوهم
ومن جهود الصحابة المباركة ما خلَّفوه من جيل، حملوا عنهم معالم الدين، ونهضوا بتكاليف الدعوة؛ ليكون على درب الفلاح والنجاح، وتعاقب الأجيال (جيل التابعين ومن تبعهم من بعدهم)؛ فكان منهم أولئك الأعلام الذين حملوا عبء الأمانة، من أمثال الحسن البصري، وأويس بن عامر القرني، وسعيد بن المسيب، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والليث، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة.
وكان عمر بن عبدالعزيز والقادة العظام -وهم كثيرون- وهنا تبرز قيمة النظر العميق، في الاستجابة لمطالب فقه الساعة، وواجب الوقت، وفي ذات اللحظة كانت العناية بالنظر المستقبلي، من خلال استشراف المستقبل، بتقدير الحاجة لهذا الفقه في قابل الأيام، ونضرب على هذا مثلاً بالإمام أبي حنيفة، وكيف كان ينتقي حملة المشروع بدقة فائقة، ونظر سديد، ودافع عماده الغيرة على دين الله تعالى؛ فكان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، والحسن بن زياد، وزفر، وغيرهم من الأئمة، حتى نشروا هذا العلم العظيم بمدرسة طارت علومها في آفاق الدنيا، بالجهد المخلص الذي بذلوه وأفرغوا فيه الوسع حتى تحقق المراد، وهكذا جيل بعد جيل، تحصل قضية التوريث للديمومة والاستمرار، وما شيوع السند وعلوم التحمل والإجازة إلا نوع من هذا الذي ندندن حوله.
وكم يؤلمني وأنا أقرأ قول من قال من أعلام هذه الأمة عن الإمام الليث: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به»؛ ذلك أن جهداً كبيراً ضاع في ثنايا الكسل والخمول، وفي هذا دلالة عميقة عن هذا الذي نتحدث عنه، ولما لم يكن أصحاب الليث لم يقوموا به، لم يصل إلينا مذهبه كاملاً، ويا لها من خسارة، والمسؤولية تقع على كاهل جميع من كان في دائرة أمانة المشروع (وفهمكم يكفي!).
وراثة الدعوة بعصرنا
وهكذا كان هذا الأمر في الأمة جيلاً بعد جيل، يضعف أحياناً، ويقوى في كثير من الأوقات، كل ذلك بحسب توافر عوامل النهوض المطلوبة من عدمها، والكلام في هذا يطول، وتكفينا في هذه العجالة الإشارة للمعنى.
وفي عصرنا الحاضر، كان الخير في هذا التوارث للدعوة والعمل الإسلامي، وقام من قام من هؤلاء الوارثين بهذا الواجب، والمضي في ركب هذه القافلة، من هنا نشعر بلزوم أن نعمل على التفكير الجاد في هذا الشأن، وحاجتنا لهذا الأمر اليوم أكثر من حاجتنا له من ذي قبل؛ إذ اليوم نرى الهجمة الشرسة على هذه الأمة وهويتها ودينها وثوابتها، اليوم نرى قسماً من المسلمين ليسوا على الطريق المطلوب رغم وجود الخير الكثير في الأمة، لكنها تعاني كثيراً من الهموم، وتحل بها جملة من المصائب، ومجموعة من الكوارث هنا وهناك، وهذا كله يحتاج إلى عمل جاد، وجهد منظم، وخطوات مدروسة قائمة على قيم الرشد، مع الاستفادة من كل البرامج المعاصرة، واستثمار كل ما هو نافع ومفيد من علوم اليوم.
فالإمام حسن البنا، رحمه الله تعالى، كان يعي ما يصنع، ويتفانى في مشروعه الرائد، ويفهم أهدافه بصورة متكاملة، ويدرك تمام الإدراك البرامج التي يسير عليها، والمرامي البعيدة التي يريد الوصول إليها، كانوا يقولون له: لِمَ لَمْ تؤلف الكتب؟ بل إن والده كان يتمنى على ولده أن ينشغل بتأليف الكتب، ظناً منهم أن تأليف الكتب هو السبيل الأمثل لخدمة الإسلام والدين والدعوة والأمة، ورغم أهمية تأليف الكتب وضرورته، فإن تأليف الكتب جزء من الهدف الذي ينبغي السعي له، وليس كله؛ لذا كان يجيبهم بنظرة أكثر عمقاً، وبحس مليء بالفهم الشمولي، وبنظر مقاصدي دقيق، بقوله: «أنا مشغول بتأليف الرجال الذين سوف يؤلفون الكتب».
واليوم على الإسلاميين أن يجعلوا على طاولة تخطيطهم هذا البند المهم في العمل على تكوين جيل قادم يحمل أمانة هذا المشروع الإسلامي، من خلال إعداد القادة، وفي كل المجالات، وضرورة صناعة العلماء الربانيين، ورفد العمل بأجيال جديدة، ودماء حيوية، نطمئن من خلال وجودها على أن الأمة بخير.