يبدو -والله أعلم- أن مغارة علي بابا أغلقت أبوابها علينا، نباح الكلب بالخارج يثير حنينا إلى الخروج من هذا الكهف المظلم، خيوط العناكب تملأ الحوائط المتهدلة كأنما هي تعاريج الزمن، تدب حركة غير عادية إنها ماكرة تسعى، تتداخل أجزاء اللحظة لتقول بلا صوت إنني هنا منذ أبد وقد أدفن دونما مشيعين، تنتابني وحشة مرة؛ من يحضر الحليب للصغير؟
بل من سيمسك بالفرشاة ويرسم الزهرة الجميلة؟
بالتأكيد لست أنا؛ فالحياة هنا رجع صوت خفي، تنتهي لحظاتها المرتقبة، تحت وقع أقدام سوداء أرهقت الوطن، قيدت أحلامه بستائر سوداء، أنشبت مخالبها في جسد الأطفال، أعلم أنهم ينتشون بل ويتراقصون على وقع دموعي، كل هذا حقيقة مرة، لكن بقيت لي أنفاس تشاركني الاغتراب!
الساعة التي في معصمي تشير إلى لحظة ما، على أية حال لا قيمة لدورانها، فهنا العمر يزحف مثل دودة، الصخب توقف وبدلا منه احتل الفراغ واجهة المبنى الحجري ومن ثم تسلل إلى موضع رأسي المختزن لألف قصة عن عالم تركته في عراك يجري حول كسرة خبز مغموسة في إناء بلاستيكي صنع من قمامة الرجل الأبيض.
حاولت أن أفعل شيئا، منذ فترة يحثني أبي أن أقلع جذر شجرة الزيتون الذي يتصدر دوار البيت الحجري، يخشى أن يجرحه، وجدتها فرصة فهذه الأيام الأعمال متوقفة ولابد لي من عمل؛ تتحرك منه أطرافي الواهنة، نحن نكتفي بسرد قصص عن عالم اندثر لم يبق منه إلا ما تختزنه ذاكرتنا قوتا للصغار، مهددون بالتلاشي فكل شيء ينذر بعتمة لا أفق لها، على كل حاولت كثيرا، لكن الجذر كان يضرب في باطن الأرض، إنه يمسك بالرمق الأخير من حياة توشك على الفناء.
حتى المعاول تهشمت، وجدت ألا مفر من أن أكسر ظاهره ويبقى الأصل رابضا ريثما تتبدل الأحوال.
حتى الأشجار تقاوم الذوبان، استرحت تحت ظل شجرة الليمون، وجدت أن هذا الكهف له مشرع شمس ينفذ منه الضوء، أخبرت الشيخ أن الجذر امتنع أن يفارق الأرض، ابتسم، ثم قال: إنه يمسك بالوطن، كن مثله لا تغادره، فبقايا العمر تظل تثير فينا الانتماء رغم مرارة الوجع؛ هكذا أخبرني!
دبت في رغبة الحياة من جديد، كنت أحمل في جيبي ثلاث حبات من بذور شجرة “المورينجا” على الفور حفرت لها جوار البيت وأسكنتها الأرض، فهذه عادتي أن أذر الحب ينمو ويتطاول ساقه؛ عوض ما اندثر، إنها الحياة تترك بصمتها في كل ناحية، تراقص عصفور فوق نافذة البيت، إنه يغازل أنثاه يبدو أن موسم التزاوج على الأبواب.
عاودني الحنين مرة أخرى، ليتهم ظلوا معي، بعدت بيننا المسافات، كأنما انفلت قطار السكة فما يمسك على راحل، يتباهى هؤلاء المدجنون بطعم السوط النازل على ظهورهم، بل يفاخرون بطعم الذل حين يصب في أمعائهم.
إنه زمن الهروب من كل شيء حتى انحسر الظل عن دمى شوهاء، لكم يجذبني ألف خيط يمتد عبر بوابة المغادرة!
كل أحلامي أن أجد البحر، لا يهمني أن تكون بقاياي تناثرت فوق سطحه الأزرق، أم كان السقوط هو قدري.