إن الفكر الإسلامي ظل لما يقرب من عشرة قرون استجابة لواقع الأمة وحاجاتها، وأبدع في ذلك علومًا ازدهر بها الفكر الإنساني كله، وعندما توقفت تلك الاستجابة بين الفكر والواقع جمدت حركة الحضارة والحياة الإسلامية كلها.
نتناول في هذه المقالة بعض قضايا تجديد انشغالات العقل الإصلاحي المعاصر في القرن العشرين، وضرورة تطوير قضاياه والاستجابة لحركة الواقع الإسلامي.
قضية المنهج
إن قضية المنهج من أبرز القضايا التي يجب أن يجدد بها العقل الإصلاحي المعاصر انشغالاته، وذلك لأن المبدأ الوجداني في التعامل مع الظواهر الحضارية أمر غير ذي فائدة في ظل التطورات الفكرية الحادثة والحديثة، وإن معرفة الإسلام ذاته تحتاج إلى تطوير، وإلى منهجية جديدة في اكتشاف، كذلك فإن إدراك الحالة الإسلامية لم يعد تجدي معه الطرائق القديمة، وكذلك منهج بناء الشخصية الإسلامية القائم على الكمال والصلاح الذاتي للنموذج باعتباره نموذجًا مغلقًا كاف بنفسه، ولا يحتاج إلى الغير، والعناية بأمر المنهج تعني إعادة التفكير في معرفة ذواتنا، وإعادة النظر في إدراك الغير والوعي به.
كذلك، فإذا كان الفكر الإصلاحي في العصر الحديث دشن تراكما نظريًا مشحونًا بالعاطفة تجاه قضايا الإسلام، فإن العقل الإصلاحي المعاصر مطالب بدوره بالاستقراء العلمي لكل هذا التراث النظري، وهذا الأمر مفقود في بحوث الفكر الإصلاحي وأفكاره.
الغرب يمثل النقطة المركزية لتطوير أي مشروع حضاري باعتباره النموذج المهيمن ما يتطلب إعادة اكتشاف لمبادئ التواصل الحضاري
إن فكرة الاستقراء/ التتبع فكرة قرآنية علمية ترادف السير “وسيروا”، ومضمونها دراسة الحالة للتعرف على الظروف البيئية المحيطة بالحالة، والأسباب المادية التي ترتبط مباشرة وبصورة واقعية بالمشكلات: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:85]، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:89]، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 92]. وهنا يظهر الفرق بين “العامل” والتصنيف العاملي لأزمة الأمة الذي خطه الجيل الأول ودفعه الجيل الثاني، وبين “السبب” الذي يجب أن يقوم به حتى يستطيع توليد معرفة جديدة تفيد عالم الإسلام: فردًا وجماعة وأمة ونظمًا ومؤسسات للتعرف على مشكلاتها المباشرة بغرض بناء خطة علمية لتجاوز تلك المشكلات والتغلب عليها.
إن المنهج -أيضًا- يفرض تطوير التعامل مع الغرب، فهو النقطة المركزية لتطوير وبناء أي مشروع حضاري باعتباره النموذج المهيمن، وهو ما يتطلب إعادة اكتشاف لمبادئ التواصل والاتصال والتفاعل الحضاري، وتوطين المنهج الإسلامي في ضوء الاستيعاب والهضم والتمثيل والابتكار.
تجديد درس العقيدة
إن السياق المعاصر الذي تحيا فيه العقيدة وأصحابها يعاني من مخاطر عديدة في ظل سيادة النزعة المادية، وتغلغلها في الوجدان الإنساني والإسلامي كذلك، مما عرض مفردات العقيدة إلى اضطرابات واهتزازات واضحة، فأصبحنا نسمع عن الإلحاد الفكري في مقابل الإلحاد المطلق، وعن جماعات اللاأدرية والعدمية في الواقع الإسلامي.
كما كان لفشل المشروعات السياسية المعاصرة لحركات الإصلاح أثر كبير في نشر الإحباط والاضطراب العقدي لدى أجيال الشباب؛ الأمر الذي يتطلب إعادة التفكير العاجل في بناء درس العقيدة لدى الشباب والنشء، والانتقال من توريث الاعتقاد والتلقين والحفظ والاستظهار إلى منهجية التعقل والتفكر والتدبر والسؤال وقبول الشك المنهجي وتجديد أبنية علم الكلام ووظائفه في ظل تطور أدوات ووسائل مواجهة الدين.
القضية العلمية
يجب أيضًا أن تكون القضية العلمية في بؤرة انشغالات العقل الإصلاحي المعاصر، وأن يكون ذلك عبر منهجية علمية وفكرية واضحة، وأن يتم التواصل بين العقل الإصلاحي والعقل الأكاديمي في الجامعات العربية والإسلامية بصورة أكثر فعالية، وببرامج تفصيلية للمسألة العلمية، وأن يقوم العقل الإصلاحي ببناء منظور حضاري شامل للعلوم والمعارف المعاصرة، يكون قابلًا للتطبيق في الواقع الفكري والعلمي الأكاديمي، وليس مجرد كليات أو شعارات تدغدغ المشاعر والوجدان الإسلامي؛ فمسألة النهوض العلمي ركن أساس في رسالة الاستخلاف، ومهمة البلاغ المبين التي يجب على المسلم أداؤها على خير وجه لتلك الإبانة. ومن ثم فالتخلف عن هذا الواجب هو تخلف أيضًا عن الإسلام من ناحية، وترك واجب هو أصل الواجبات الحضارية الإسلامية.
كان لفشل المشروعات السياسية المعاصرة لحركات الإصلاح أثر كبير في نشر الإحباط والاضطراب العقدي لدى أجيال الشباب
يجب على العقل الإصلاحي أن يدشن جماعة علمية بل جماعات علمية في كافة تخصصات العلوم المعاصرة، تكون مهمتها تدشين فلسفة جديدة للعلم، وإعادة تصنيف العلوم من المنظور الحضاري وتلبية لاحتياجات الإنسان المعاصر ومستقبله المعنوي والمادي، وتفصيل الأسس والمنطلقات والكليات التي يقوم عليها المنظور الحضاري البديل، وأن يكون على اتصال فعال بمؤسسات التعليم والثقافة المختلفة كي يفتح روافد لأفكاره في بناء العقل المسلم الجديد.
كما أنه لا يمكن إهمال المنجزات العلمية التي أنتجتها الحضارة المعاصرة، ولا مناهجها ولا أدواتها، ويجب أن يفحص العقل المسلم كل ذلك فحصًا جادًا وأمينًا يكون معه قادرا على أن يبني جسرًا علميًا بين أمته وبين هذه المنجزات بغرض التوظيف والاستفادة والبناء عليها.
قضايا الأسرة
لا يخفى ما تتعرض له الأسرة المعاصرة، بصفة عامة، والأسرة المسلمة بصفة خاصة من مخاطر وجودية، ومخاطر ثقافية واجتماعية متعددة. ومن ناحية أخرى تشغل الأسرة مكانة مهمة في الإسلام وتبدو العلاقة بينهما أشبه بالعلاقة الوجودية.
إن الأسرة في التصور الإسلامي هي موضع تجسيد الإسلام، فهي التي تحمل تصوراته ومفاهيمه النظرية إلى واقع وحياة المجتمع، الذي يسمى -حال قيام الأسرة بتلك الوظيفة- بـ”المجتمع الإسلامي”، وأن أي خلل في الوظيفة الاجتماعية للأسرة، يتبعه بالضرورة خلل في مكانة الإسلام في حركة الحياة.
وعلى العقل الإصلاحي في الأمة اتخاذ التدابير الملائمة لإنقاذ واقع الأسرة، والبحث في نتائج التقارير والمسوح المعاصرة في مجتمعاتنا الإسلامية على اختلافها، والبحث في الأسباب والعوامل المعيقة لوجود الأسرة ولقيامها بوظائفها، وتأطير برنامج شامل لاستعادة نموذج الأسرة القرآني، وقراءة الأحداث والسياقات المحيطة بالأسرة قراءة متفحصة وواعية وراشدة للوقوف على سبل المواجهة الجادة. ويكون ذلك بالتعاون مع كافة المؤسسات العاملة في هذا الميدان، ويجب ألا يكون عملًا نظريًا تصوريًا فقط، بل يجب أن يكون عملًا ميدانيًا أيضًا وبنفس القدر.
فقه الواقع
إن فعل الإصلاح نفسه لا يتم في فراغ، وإنما يتم في ضوء واقع له ملابساته وأحداثه وسياقاته المتغيرة والمتجددة كذلك، وإن فقه الواقع يتطلب درس الماضي والحاضر والمستقبل؛ الماضي للاعتبار والاستفادة، والحاضر لاستقراء الإمكانات والقدرات والعقبات، والمستقبل للتغيير والتجديد من خلال التخطيط السليم للاحتياجات والتطلعات والأشواق.
هذه القضية يجب أن يفرد لها العقل الإصلاحي مساحات واسعة في التفكير والانشغال لأنها هي التي يتم في ضوئها كل عملية للبناء الحضاري، وأن يجمع في هذا التفكير بين الجانب النظري والجانب الاستقرائي، ومن ثم فإن “فقه الواقع” والتأطير النظري والاستقرائي له يعد ركنًا أساسيًا في مشروع الأمة النهضوي المنتظر، والتخلي عنه أو إهماله هو إهمال للحركة والتاريخ والحقيقة، وهذه الثلاثة هي مقومات أي فعل نهضوي.
على العقل الإصلاحي في الأمة اتخاذ التدابير الملائمة لإنقاذ واقع الأسرة والبحث في نتائج التقارير المعاصرة في مجتمعاتنا الإسلامية
تجسير العلاقة بين العقل العام في الأمة وأفكار الإصلاح
أحد الإشكالات التي وقع فيها العقل الإصلاحي، هو اعتبار نفسه نخبة متعالية في مقابل العوام، رغم أن ذلك لا يتوافق مع الهدي القرآني ولا الاقتداء الحضاري النبوي؛ حيث إن الرسالة هي المتعالية وليس حاملوها، ووظيفة حاملي الرسالة هو إيصالها إلى مستحقيها، وهذا لا يكون إلا عبر وسائط تجسر العلاقة بين المبلغ (العقل الإصلاحي) والمرسل إليه (العقل العام في الأمة).
إن لفظة “الناس” تشغل مكانة مهمة في التنزيل القرآني، وهم المناط بهم تغيير حركة التاريخ وليس الأنبياء أو المصلحين {ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25]، والعقل العام هو مستهدف الخطاب القرآني ومستهدف رسالاته، وإن حركة التغيير الاجتماعي في أي أمة تتعلق بالناس.
على هذا فالعقل الإصلاحي مطالب بالبحث في ردم تلك الفجوة -التي يشير إليها الواقع وإلى اتساعها وبكل وضوح- وبناء جسور بين العقل الإصلاحي والعقل العام في الأمة.
المعرفة
لا بد أن يراوح العقل المسلم مكانه الذي وقف فيه عند بداية النهضة الأوروبية في العصر الحديث، أي يراوح القضايا التي انفعل بها إبان الاحتكاك الباكر والصدمة الحضارية التي تعرض لها.
وتعد قضية المعرفة من القضايا التي يجب أن ينشغل بها ويضعها في بؤرة الاهتمام والشعور؛ فنوعية المعرفة التي تقدم للمجتمع تؤثر -بلا شك- في نوعية الحياة التي يحياها، وإن تأخر الإسهام العربي والإسلامي في إنتاج المعرفة يصاحبه مخاطر حضارية وثقافية على المجتمع العربي والإسلامي، كما أن مجتمعنا لا يمكنه أن يظل رهين الأطر الفكرية الوضعية التي يتم فيها إنتاج المعرفة المعاصرة، ويتم فيها تسويق المنتجات الثقافية والفكرية المصاحبة لهذه الأطر الوضعية.
إن استجابة الفكر الإسلامي لقضية إنتاج المعرفة ضرورة حضارية وفريضة إسلامية، وتعد استمرارًا للمسيرة الحضارية للأمة والمحافظة على وجودها، ودليلا على شهودها الحضاري. وفي ذلك فإن الأمة تمتلك ثروة معرفية وافرة، وأصولا معرفية في حاجة إلى إعادة البناء والترتيب والتوظيف، ومؤهلة بما تملكه من نموذج حضاري فريد في تحقيق المشاركة العالمية في إنتاج المعرفة وتغيير نوعية حياة الإنسان المعاصر.