في توصيف الأديان توجد أديان قومية تقتصر على قوم محددين، كأن يقال هذا الدين للشعب الفلاني، وتوجد أديان ترتبط بعرق معين، فلا يحق لأحد أن يكون من هذا الدين إلا إذا كان من هؤلاء الناس، وغير ذلك من الصور الكثيرة، وهناك أديان تقوم على قضايا عنصرية تستند إلى العصبيات، وينتج عنها أشكال من عصبيات الجاهلة، المفرقة المؤلمة، المحزنة التي لا ترتبط بالمعاني الإنسانية؛ بل فيها الطامات المهلكات، والقضايا العبثيات، ومسائل مليئة بالخرافات، قديماً وحديثاً.
لكن من المعلوم من الدين بالضرورة -وهو من بدهيات خصائص الإسلام، والتصور الإسلامي- أن الإسلام دين عالمي، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأماكنهم، فهو للعرب وللعجم، والشرق والغرب، والشمال والجنوب، فهو للإنسان كل الإنسان، ليس لقريش فقط ولا لأهل مكة فحسب، ولا للعرب وحدهم، وإنما للعالمين جميعاً، وجعل الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي بعده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158)، وخاطب القرآن الكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ: 28).
وفي صحيح البخاري، من حديث جابر ابن عبدالله رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ قالَ: «أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي»، وذكر منها: «وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً».
ومن مجموع هذه النصوص وغيرها، يتأكد لنا أن الإسلام دين شامل، يشمل الإنسان والمكان، وهو صالح لكل زمان ومكان، ولكل إنسان وجان، وهذا من ثوابت الإسلام.
أمة الإسلام:
ومجموع من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، من الذين آمنوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، يشكلون أمة الإسلام، من خلال هذا الكم الكبير من حيث العدد البشري، حيثما كانوا وأينما حلوا، سواء في بلاد المسلمين أم في غيرها، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وصار من دوحة الأخوة الإسلامية التي قال تعالى فيها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، ويرتبط مع سائر إخوانه برباط الجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الجسد بالحمى والسهر، وأكثرهم يجمعهم الموقع الجغرافي الواحد، أو مجموعة البلدان، من طنجة إلى جاكرتا، التي تعرف بـ«العالم الإسلامي»، حماها الله وكثر خيرها وبارك فيها، أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»، إنه ذو دلالة ربانية، وهذا له عمقه السياسي، وبعده الإستراتيجي، الذي ينسحب على قوة الأمة، وعظيم حضورها، وشهودها الحضاري.
من لوازم عالمية الإسلام:
الدعوة لهذا الدين، ونشر تعاليمه في ربوع العالمين، ووجوب الدعوة إلى الإسلام، والتعريف به، وشرح مبادئه، بفهم سليم، ووسطية ربانية، وتصور صحيح، بعيداً عن الإفراط أو التفريط، والغلو والتشنج، بأسلوب جذاب، وطرائق سهلة، وهذا يحتاج إلى جماعة من المعلمين حتى تصل هذه المعاني والعقائد والتعاليم، والقيم والمبادئ الربانية -من حملة المشروع من الرجال والنساء- إلى كل إنسان على وجه الأرض، وهذا واجب المسلم الذي ارتقى بمستوى مسؤوليته حتى يأخذ لقب «الأستاذية»، ومستوى معرفة ما يجب عليه في هذا الجانب الحضاري القويم، إن في نعوت «الداعية» كصفة «القدوة»؛ فيكون أستاذاً عاملاً ملتزماً، يربي بحاله قبل مقاله، ملاحظاً الواقع ومتغيراته، والعصر وحاجاته، والوقت وأدواته، وجديد العمل وآلياته، حتى تشرق الأرض بنور هذا الإسلام، فلا شك ولا ريب أن المستقبل لهذا الدين.
أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله».
وفي صحيح البخاري، عن سعد بن سهل الساعدي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «فوالله لأن يهدي الله بك رجـلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمر النَّعم»، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعنَ فيها، وجعل يحجزهنَّ ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخُذ بحُجَزِكم عن النار: هَلُمَّ عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، فتقتحمون فيها».
والعمل الدعوي، ونشر الإسلام والذب عنه له مستويات عظيمة من العمق المطلوب، التي أساسها دخول الناس في دين الله تعالى، ومن ثم حصول الأجر والثواب من الله سبحانه، وثانيها تكثير المسلمين، وفي هذا قوة للمسلمين، وكانت العرب تقول: إنما العزة للكاثر، كما أن الانتشار في كل بقعة من الأرض له دلالاته الكبرى في عالم السياسة.
من مفردات العمل الدعوي في هذه المرحلة:
1 – رصد الشبهات عن الإسلام والمسلمين ودفعها، والرد عليها، سواء بالطريقة الفردية، أو من خلال المؤسسات الإعلامية، أو المراكز البحثية.
2 – صناعة علاقات شاملة مميزة، تساند هذا العمل، بطريقة البرامج والخطط.
3 – الاهتمام بإعداد الدعاة العاملين الربانيين، الصادقين المخلصين، ليقوموا بدور التربية والتعليم، والتوجيه والإرشاد.
4 – العناية بالمساجد والمراكز ودور الثقافة الإسلامية، بصورة تتناسب مع روح العصر ومتطلباته.
5 – لا بد من لغة التطوير، والتفكير الدائم بالوسائل المفيدة، والطرائق الحديثة.
6 – الإعلام والمطبوعات لهما أثر كبير في حياة الناس، فعلينا أن نهتم بهما بلغة علمية، قائمة على الاستفادة من كل ما وصل إليه البشر من مهنية راقية في هذا الميدان.
7 – التواصل بين المسلمين، وصناعة منصات لهذا التواصل، يكون من ثمارها التعاون والتنسيق، وتبادل الخبرات، من خلال جسدية ناضجة، بتخطيط سليم هادف.
شبهة ورد:
يقول بعض الناس: إن شعار «دعوة الناس وتربيتهم وتعليمهم» يدل على التعالي، ورؤية النفس، والكبر، ودافعه الأساس حب الهيمنة، وعشق التسلط، والطمع بما في أيدي الناس من خيرات، والطمع بثرواتهم، فأنتم الأساتذة، والآخرون صغار أقزام، يتلقون منكم، ويستسلمون لكم!
وهذا كلام غريب عجيب مدهش؛ لأن من صفات الداعية الإخلاص، ومن نعوت المعلم التفاني في أداء هذه المهمة الشاقة، والرسالة المضنية، والقيام بالتوجيه دليل على الرحمة بالناس، والشفقة عليهم، والحقيقة تقر بذلك في الغالب الأعم! فأين التعالي والكبر والعجب؟ بل الأمر بالعكس من هذا، إذ يشهد التاريخ والواقع للعاملين الصادقين للإسلام أنهم كانوا مشاعل هداية، ومنارات خير، فلم يمدوا أيديهم طمعاً، بل زهدوا بما في جيوب الناس، وسخروا ما في جعبتهم من فضل ليكونوا جسر محبة وتضحية وإيثار، واقرؤوا سير كبار الدعاة، في القديم والحديث، لتجدوا هؤلاء قدوة مثلى، وتأثر بهم من رآهم وخالطهم وسمع منهم، وإن سلوك كثير منهم وأخلاقه، وحسن تعامله، وجميل تواضعه، كانت سبباً بدخول الناس في دين الله أفواجاً.