كانت نفسه تدعوه إلى الراحة وتزين له التخلص من أي عمل يتطلب منه جداً وجهداً وقوة ونشاطاً؛ مما أدى إلى تهاونه في أداء الواجبات الأداء الكامل المطلوب منه، فكان كلما همَّ بفِعلٍ فيه نفعه وارتقاؤه تردد قبل البدء فيه تردداً كبيراً دون سبب، وإذا بدأه لم يلبث إلا قليلاً حتى يتركه.
بدأ بدروس العلم التي تحتاج صبراً ومثابرة وسهراً ومدارسة، وقوة نفس وعلو همة، لكنه سرعان ما استشعر صعوبة ذلك فانسحب من درسه ولم يكمل، وكلما عاهد نفسه على المداومة على نوافل العبادات والمحافظة على ورده اليومي من القرآن، وعلى أذكار الصباح والمساء، سرعان ما ينقض عهده إذ تفتر همته، ولقد نوى مراراً وتكراراً أن يمسك لسانه عن القيل والقال ولم يستطع الإمساك، وكم من مرة يحلف لزوجته أنه لن يسيء إليها بفعل أو قول، ويعدها بحسن معاشرتها ثم لا يلبث أن يعود لسابق عهده مقصراً في حقها.. ألا يُعد ذلك منه عجزاً من نفسه يمنعه ويصده عن أداء ما ينفعه في دنياه وآخرته؟!
من أسوأ أنواعه عجز المسلم عن ترك الذنوب فيستمر فيها دون الشعور بخطرها
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يستعيذ بالله تعالى من العجز والكسل، قائلاً: «وأعوذ بك من العجز والكسل»، ونهى عن العجز بلا سبب، وجعل ذلك ضعفاً، وقال: «.. واستعن بالله ولا تعجز» (رواه مسلم).
والعجز قد يكون بغير إرادة الإنسان ولا يستطيع أن يدفعه، كالعجز بسبب مرض أو شيخوخة أو إكراه، وهذا له عذره ولا يكلفه الله تعالى ما لا يطيق، أما إن كان العجز دون عذر، ومتلازماً مع الكسل أو يؤدي إليه، فعلى العبد أن يتقوَّى بالله تعالى ويطلب منه العون والقوة التي يصير بها ذا همة وسعي، ويأخذ بأسباب ذلك لينبذ عجزه، وهذا النوع من العجز هو عجز النفس لا الجسد، ويتمثل في تدني الهمة وضعف العزيمة، وله صور متعددة في حياة الإنسان، وبه يتضرر حاله ولا يستقيم.
من صور عجز النفس:
– العجز الذي يؤخر عن طاعة الله تعالى: وللعجز صور مختلفة، فهناك عجز يؤخر عن طاعة الله سبحانه، يجعل العبد يستثقل العبادات ولا يكثر منها، ويظهر عجزه في ثنايا العمل حين يقصِّر فيه وهو قادر أن يتقنه، ويحصل منه التسويف والتأجيل دون عذر له، وهنا يجب على المسلم أن ينتبه ويتدارك نفسه بالعلاج، فيسارع بتجديد إيمانه والتخلص من هذا الداء ويتصبر على العبادة حتى يألفها ويتلذذها، كي لا يؤدي به عجزه إلى الوقوع في معصية الله تعالى، وقد قال ابن القيم: «وأصل المعاصي كلها العجز، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي، وتحول بينه وبينها، فيقع في المعاصي» (زاد المعاد)؛ فإذا وقع في المعصية صار تركه لها يحتاج عزيمة وإرادة لا عجزاً وضعفاً.
قد يحصل العجز من بعض الأزواج فيعجز عن رعاية أسرته بإهمال إصلاحها بالمعروف
– العجز عن ترك المعاصي: ومن أسوأ العجز أن يعجز المسلم عن ترك الذنوب والإقلاع عن المعاصي، فيستمر فيها دون الشعور بخطرها، فإن حصل ذلك فعليه أن يسأل الله عز وجل أن يتوب عليه، وليسارع بالإقلاع عن معصيته والتوبة منها والندم على فوات الوقت فيها، وليكثر من الاستغفار، وليبشر التائب حينئذ بتوبة الله تعالى عليه وتمام النعمة والمنة وقد آمنه من العذاب في الآخرة، قال سبحانه: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان: 70)، وعليه أن يستبدل بصحبته السيئة صحبةً صالحة، ويتحلى بالهمة العالية، ويتجمل بالصبر عن المعاصي، ويكثر من ذكر الموت، وأن يتذكر الجنة ونعيمها، ليتعلق قلبه بالمساجد، ويصاحب القرآن الكريم، وكل ذلك مما يقوِّي النفس ويزكيها ويعينها على الثبات.
– العجز في أداء حقوق العباد: ومن العجز الذي لا يليق بالمسلم العجز عن أداء حقوق العباد أو التقصير فيها وتضييعها، ومن آكد هذه الحقوق ما يحصل به استقرار الأسرة التي هي اللبنة الأولى في أي مجتمع، ومن هنا وجب على كل فرد من أفراد الأسرة معرفة ما عليه تجاه أسرته؛ فقد يحصل العجز من بعض الأزواج حين يعجز عن رعاية أسرته فيهمل إصلاحها بالمعروف وقد جعله الله قواماً عليها بالحفظ والصيانة والتربية والرعاية والنفقة والتعليم، والمودة والرحمة، لكنه يعجز عن القيام ببعض ذلك أو كله فلا تستقيم حياة الأسرة، وهذا يتطلب منه أن يراجع نفسه ويعرف أهمية دوره في إدارة أسرته والارتقاء بها إيمانياً وتربوياً وصحياً واجتماعياً لتصلح وتسعد.
وفي المقابل، قد تهمل المرأة ما عليها من واجبات تجاه زوجها وأولادها وأسرتها وتقصر فيها دون عذر يمنعها من ذلك، بل عجزاً في نفسها أمام أمور أخرى تلهيها وتنشغل بها عن واجبها نحوهم.
– ومن صور العجز أن يعجز المسلم عن طلب العلم الذي ينفعه في دينه ودنياه ويرضى بالقليل منه ولا يستكثر؛ فالهمة العالية في التعلم مطلوبة، في كافة التخصصات النافعة التي تحتاجها الأمة لترقى وتنهض.
من العجز أن يخضع المسلم له وينكسر معه ولا يحاول التغلب عليه والتخلص منه
ومن العجز أن يضعف المسلم أمام العادات الضارة والسيئة، فلا يتخلص منها كشرب الدخان والقات والشيشة..
ومن عجز النفس أن تخلع المسلمة حجابها وتكشف جسدها، وتلبس ما ضاق من الثياب، وتظهر زينتها التي أمرها الله تعالى بإخفائها، خوفاً من كلام الناس ونظراتهم أو اتباعاً لهواها.
ومن العجز عدم التخلص من الألفاظ البذيئة والأخلاق السيئة..
ومن العجز أن يخضع المسلم للعجز وينكسر معه، ولا يحاول التغلب عليه والتخلص منه، رغم أن هذا ليس بالأمر المحال، فكم من أناس ابتلاهم الله تعالى بعجز بدني لكنهم لم يستسلموا؛ فكان منهم الحُفاظ والعلماء والبلغاء.
لا تعجز:
ولعجز النفس أسباب يجب تجنبها والتخلص منها، ومن ذلك:
كم من أناس ابتلاهم الله بعجز بدني لكنهم لم يستسلموا فكان منهم الحُفاظ والعلماء والبلغاء
– اتباع هوى النفس، والتمني دون عمل، فالنفس تميل إلى الدعة والراحة، والهدوء والسكون، وهذا إن كان غير محمود في أمور الدنيا ففي العمل للآخرة من باب أولى، ولا سيما إن كان في مقدور العبد أن يعمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» (سنن الترمذي، وحسنه)، قال ابن القيم: «وَالْكَيْسُ: هو مباشرة الأسباب التي ربط الله تعالى بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتح عمل الخير، وأما العجز، فإنه يفتح عمل الشيطان، فإنه إذا عجز عما ينفعه، وصار إلى الأماني الباطلة بقوله: لو كان كذا وكذا، ولو فعلت كذا، يفتح عليه عمل الشيطان، فإن بابه العجز والكسل، ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما، وهما مفتاح كل شر» (زاد المعاد).
وقد يكون سبب العجز الغفلة، وعلاج ذلك الذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يكسب، كل يوم ألف حسنة؟»، فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: «يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة» (رواه مسلم)، وقال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟»، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» (رواه مسلم)، كما عدَّ الغفلة عن الدعاء من العجز فقال: «أعْجزُ الناسِ من عجَز عن الدعاءِ» (السلسلة الصحيحة).
فليأخذ المسلم بأسباب علو الهمة وقوة النفس، وليتخلص من العجز إذا شعر به، ويجتنب أسباب الوقوع فيه حتى لا يورثه الكسل والتقصير في عمله وواجباته.