الله سبحانه وتعالى فضل بعض الشهور على بعض وفضل بعض الأماكن على بعض، ولكن لا يثبت فضلٌ لزمان ولا لمكان إلا بدليل قطعي ولا بد من التثبت حتى لا يُكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من الأحاديث جاءت في فضل رجب ما بين ضعيف وموضوع فلا بد من التثبت في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهر رجب شهر الانتصارات يذكرنا بمجد كان لأمتنا ففيه كانت غزوة تبوك، وفيه أيضا كان تخليص المسجد الأقصى من أيدي الصليبين على يد صلاح الدين وفيه كان الإسراء والمعراج ، فجدير بنا أن نتذكر هذه الأحداث ونأخذ منها عبرة وذكرى (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر من كبار علماء الأزهر: وضع الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني رسالة بعنوان: تبيِين العجب بما ورد في فضل رجب، جمع فيها جمهرة الأحاديث الواردة في فضائل شهر رجب وصِيامه والصلاة فيه ، وقسَّمها إلى ضعيفة وموضوعة. وذكر له ثمانيةَ عَشَرَ اسمًا، من أشهرها ” الأصمّ” لعدم سَماع قَعقعةِ السلاح فيه؛ لأنه من الأشهر الحرم التي حُرِّم فيها القتال، و “الأصبّ” لانصباب الرّحمة فيه، و “منصل الأسِنّة” كما ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبُد الحجرَ، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حَثْوةً من تراب ثم جئنا الشّاءَ ـ الشِّياه ـ فحلبْنا عليه ثم طُفنا به، فإذا دَخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنّة، فلم نَدع رُمحًا فيه حَديدة، ولا سهمًا فيه حَديدة إلا نزعناه فألقيناه.
وفضل رجب داخل في عموم فضل الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: (إنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ، فَلَا تَظْلِموا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم) (سورة التوبة : 36) وعيَّنها حديثُ الصّحيحَيْن في حِجّة الوداع بأنّها ثلاثة سَرْد (أي متتالية ) ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ،وواحد فرد ،وهو رجب (مُضر)الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وليس رجب (ربيعةَ) وهو رمضان. ومن عدم الظُّلم فيه عَدَمُ القِتال، وذلك لتأمين الطّريق لزائري المَسجد الحرام، كما قال تعالى: بعد هذه الآية (فإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ) (سورة التوبة : 5) ومن عدم الظُّلم أيضًا عدم مَعصية الله، واستَنبَط بعض العلماء من ذلك ـ دون دليل مُباشر من القرآن والسُّنّة نصَّ عليه ـ جوازَ تغليظ الدِّية على القَتل في الأشهر الحُرُم بزيادة الثُّلُث.
ومن مظاهرِ تفضيل الأشهر الحرم ـ بما فيها رجب ـ نُدِب الصّيام فيها. كما جاء في حديث رواه أبو داود من مُجيبة الباهليّة عن أبيها أو عمِّها أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له ـ بعد كلام طويل ـ “صُمْ من الحُرم واتركْ” ثلاثَ مرّات، وأشار بأصابعه الثلاثة، حيث ضمّها وأرسلها والظّاهر أن الإشارة كانت لعدد المرّات لا لعددِ الأيّام. فالعمل الصالح في شهر رجب كالأشهر الحُرم له ثوابُه العظيم، ومنه الصّيام، يستوي في ذلك أوّلُ يوم مع آخره، وقد قال ابن حجر: إن شهر رَجب لم يرِد حديث خاصٌّ بفضل الصِّيام فيه، لا صحيح ولا حسن. ومن أشهر الأحاديث الضعيفة في صيامه “إن في الجنة نهرًا يُقال له رجب، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللَّبن وأحلَى من العسل، مَن صام يومًا من رجب سَقاه اللهُ من ذلك النّهر” وحديث”مَن صام من رجب يومًا كان كصيام شهرٍ، ومن صام منه سبعةَ أيّام غُلِّقت عنه أبواب الجَحيم السبعةُ ومن صام منه ثمانيةَ أيام فُتِّحتْ أبوابُ الجنّةِ الثمانيةُ، ومن صام منه عشرة أيام بُدِّلت سيِّئاته حسناتٍ” ومنها حديث طويل جاء في فضل صيام أيام منه، وفي أثناء الحديث “رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمّتي” وقيل إنه موضوع، وجاء في الجامع الكبير للسيوطي أنّه من رواية أبي الفتح بن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مُرسلًا.
ومن الأحاديث غير المقبولة في فضل صلاة مخصوصةٍ فيه “مَن صلَّي المغربَ في أوّل ليلة من رجب ثم صلّى بعدها عشرين ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد مرّةً ويسلِّم فيهن عَشْرَ تسليماتٍ حفِظه الله في نفسه وأهله وماله وولدِه، وأُجِيرَ من عَذاب القَبر، وجاز على الصِّراط كالبرق بغير حساب ولا عَذاب” وهو حديث موضوع، ومثلها صلاة الرّغائب.
وقد عقد ابن حجر في هذه الرسالة فصلًا ذكر فيه أحاديث تتضمّن النَّهيَ عن صوم رجب كلِّه، ثم قال: هذا النّهي مُنصرِف إلى من يصومُه مُعَظِّمًا لأمر الجاهليّة، أما إنْ صامه لقصد الصوم في الجملة من غير أن يجعله حتْمًا أو يخُصُّ منه أيّامًا معيّنة يواظِب على صومِها، أو لياليَ معيَّنةً يواظِب على قيامِها، بحيث يَظُنُّ أنها سُنَّة، فهذا من فعله مع السّلامة ممّا استثنى فلا بأسَ به. فإن خصّ ذلك أو جعله حتمًا فهذا محظور، وهو في المنع بمعنى قولِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ “لا تخصُّوا يومَ الجُمعة بصِيام ولا ليلتَها بقِيام” رواه مسلم . وإن صامَه معتقِدًا أنّ صيامه أو صيام شيء منه أفضل من صيام غيره ففي هذا نظر، ومال ابن حجر إلى المَنع، ونقل عن أبي بكر الطرطوشي في كتاب “البِدع والحوادث” أن صوم رجب يُكْره على ثلاثة أوجه: أحدُها: أنّه إذا خصّه المسلمون بالصّوم في كل عامٍ حسب العوام، إمّا أنه فَرْض كشهر رمضان، وإما سُنّة ثابتة كالسنن الثابتة، وإما لأن الصّوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام باقي الشُّهور، ولو كان من هذا شيء لبيَّنه النبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ قال ابن دحية: الصِّيام عَمَلُ بِرٍّ، لا لفضل صوم شهر رجب فقد كان عمرُ ينهَى عنه. انتهى ما نُقل عن ابن حجر.
هذا، وحِرْص الناس ـ والنِّساء بوجه خاصِّ ـ على زيارة القبور في أول جمعة من شهر رجب ليس له أصل من الدين، ولا ثوابَ لها أكثر من ثواب الزيارة في غير هذا اليوم. والأولى في شهر رجب أن نتذكّر الأحداث التاريخيّة التي وقعت فيه مثل غزوة تبوك لنأخذ منها العِبرة، ونتذكر تخليص صلاح الدين الأيوبي للقُدس من أيدي الصليبيين (في رجب 583هـ ـ 1187م) ليتوحَّد العربُ والمسلمون لتطهير المَسجِد الأقصى من رأس الغاصبين. كما نتذكّر حادِثَ الإسراء والمِعراج ونستفيدَ منه، على ما ارتضاه المسلمون في كونِه حدث في شهر رجب.