تعيش أوروبا منذ أسابيع أجواء الحرب بسبب الأزمة الأوكرانية التي تشهد تصعيداً منذراً بحرب مفتوحة، الإشكال هو أن القارة العجوز تشهد ما يدور على حدودها الشرقية وهي مغلوبة على أمرها؛ فالصراع الحقيقي هو بين طرفين (روسي وأمريكي)، كل له مصالحه الإستراتيجية، وإن كان الصراع في ظاهره بين حلف شمال الأطلسي
(ناتو) وموسكو.
كشفت الأزمة الأوكرانية عن مدى تراجع الكتلة الأوروبية في ميزان القوى الدولي، مع العلم أن هذه الأزمة ليست الأولى من نوعها؛ فقد سبق لموسكو أن عمدت إلى ضم جزيرة القرم متحدية القرارات الدولية، واليوم تضع عينها على أوكرانيا التي أظهرت تمرداً على الدب الروسي منذ استقلالها من الاتحاد السوفييتي في التسعينيات، وليس أمام أوروبا سوى خطاب التهديد بعقوبات وخيمة، بينما تدرك أن مصالحها مهددة في حال نشوب حرب على الحدود الشرقية.
ليس أمام أوروبا إلا التهديد بالعقوبات مدركة أن مصالحها في خطر إذا نشبت حرب على الحدود الشرقية
ومما زاد الأمر تعقيداً التباينات في المواقف الأوروبية حول السياسة الخارجية والموقف من روسيا أساساً، في هذا السياق؛ يمكن تنزيل موقف جهات رسمية ألمانية سياسية وعسكرية أحدثت جدلاً في الأوساط الألمانية وعلى المستوى الإقليمي الأوروبي والغربي، ووصل التعقيد إلى حد قيام قائد البحرية الألمانية «كاي أشيم شونباخ» بتقديم استقالته من منصبه بعد تصريحات مثيرة للجدل بشأن الأزمة في أوكرانيا، وكان نائب الأميرال قد صرح خلال اجتماع لمجموعة دراسات في نيودلهي أن ما يريده الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» هو «الاحترام»، وأن فكرة غزو روسيا لأوكرانيا «حماقة».
ومعلوم أيضاً وجود تباين كبير بين المستشار الألماني الجديد «سولتش»، وهو من الحزب الاشتراكي، ووزيرة الخارجية «أنالينا بيربوك»، وهي من حزب الخضر، بخصوص مواقف ألمانيا من سياسات روسيا والعلاقة معها إلى حد تهديد الائتلاف الحكومي الحالي؛ فموقف وزيرة الخارجية أقرب ما يكون للموقف الأمريكي الذي ينادي باتخاذ إجراءات فعالة مع الشركاء الأوروبيين، إذا استخدمت روسيا الطاقة كسلاح، أو إذا كان هناك المزيد من الإجراءات العدوانية.
هناك ضعف في كتلة الاتحاد الأوروبي أمام قوة روسيا من ناحية وقوة أمريكا من ناحية أخرى
سياسة جديدة
أما «شولتس»، فلئن كان يلتقي مع وزيرة الخارجية في المطالبة بإنهاء فوري لمحاولات زعزعة استقرار أوكرانيا، والعنف في شرقي أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم المخالف للقانون الدولي -كما جاء في إطار اتفاق الائتلاف الحكومي بشأن العلاقة مع روسيا بشكل عام- إلا أنه يرى أن أوروبا بحاجة لسياسة جديدة تجاه روسيا وشرق أوروبا سيراً على خطى «فيلي براندت»، أول مستشار اشتراكي في السبعينيات من القرن الماضي، الذي كان يدعو إلى سياسة الانفراج وعدم التصعيد مع الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت.
وظهر هذا التباين في المواقف منذ الحملة الانتخابية، حيث هاجمت «بيربوك» خط أنابيب نقل الغاز الروسي «نورد ستريم2»، باعتباره مشروعاً سيجعل ألمانيا أسيرة سيد الكرملين «بوتين» فيما يتعلق بسياسة الطاقة، حسب رأيها، في حين ينظر «شولتس» إلى خط الأنابيب هذا على أنه مجرد مشروع اقتصادي خاص تماماً بعيد عن السياسة؛ بل إن المستشار الألماني يريد توظيف المادة (65) من القانون الأساسي من الدستور الألماني التي جاء فيها: «يضع المستشار الاتحادي الخطوط العامة لسياسة الحكومة ويتحمل مسؤوليتها، ويدير كل وزير اتحادي مجال مهامه في إطار تلك الخطوط العامة باستقلالية وعلى مسؤوليته الشخصية»، من أجل تحديد المسار السياسي والخطوط الكبرى للعلاقات الخارجية سيراً على طريقة المستشارة السابقة «أنجيلا ميركل».
«ماكرون» يسعى إلى توظيف رئاسته للاتحاد لتحقيق مكاسب انتخابية
وإذا أضفنا هذا التباين في المواقف على المستوى الألماني إلى الخلافات بين الدول الأوروبية في قضايا عدة، منها السياسة الصحية وموضوع الهجرة غير المنتظمة والسياسة الاجتماعية في مسألة الإجهاض وغيرها، فإن الحصيلة هي ضعف كتلة الاتحاد الأوروبي أمام القوة المتنفّذة لروسيا في العديد من المناطق في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا من ناحية، وضعف هذه الكتلة الأوروبية أمام القوة الأمريكية من ناحية أخرى، التي تسعى إلى ملء الفراغ بالإمساك بالملف الأوكراني، والهيمنة من خلاله على القرار الأوروبي الهش، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وظهور مؤشرات لدعوات باسم الحفاظ على السيادة الوطنية لقوى شعبوية أوروبية تنادي بالانفصال عن الاتحاد.
وهناك تخوف من تغول أمريكي على القرار الأوروبي، وتوظيف الأزمة الأوكرانية لإحياء مشروع «مارشال» بنسخة جديدة تحت غطاء ضمان القوة الدفاعية في ظل حلف شمال الأطلسي (ناتو).
في هذا السياق، جاء الاجتماع التنسيقي الافتراضي الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، وحضره عدد من الرؤساء والشخصيات الأوروبية، وخرج بالتهديد بعقوبات وخيمة ضد موسكو التي حشدت أكثر من مائة ألف جندي على الحدود الأوكرانية، ولعل ظهور الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» بتصريح فيه تحذير لموسكو بدفع ثمن باهظ في حال الهجوم على أوكرانيا يدخل في إطار الحفاظ على ماء الوجه، خاصة أن فرنسا تولت رئاسة الاتحاد الأوروبي لمدة 6 أشهر ستشهد فرنسا خلالها انتخابات رئاسية حاسمة في أبريل المقبل، ويسعى «ماكرون»، من خلال البروز بصفة محامي السيادة الأوروبية، إلى توظيف رئاسته للاتحاد لتحقيق مكاسب انتخابية والفوز بدورة ثانية.
لتركيا مصالحها الإستراتيجية التي تدعوها للإمساك بالعصا من المنتصف بين عضويتها بـ»الناتو» وعلاقتها مع روسيا
تهميش الدور التركي
إلا أن الأمر الذي يمكن ملاحظته في كل هذه التحركات الأمريكية الأوروبية لصد عدوان روسي محتمل على أوكرانيا هو محاولة تغييب أو تهميش الدور التركي، والحال أن تركيا عضو مهم في حلف الشمال الأطلسي (ناتو)، وذلك بسبب العلاقة شبه المتوترة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا خاصة مع فرنسا رئيسة الاتحاد حالياً، وهو إشكال آخر يتمثل في اختلال موازين القوى بين موسكو و«الناتو»، علماً بأن أنقرة لها مصالحها الإستراتيجية التي تدعوها إلى الإمساك بالعصا من المنتصف بين عضويتها في «الناتو» وعلاقتها مع موسكو، ولهذا فإن تركيا عبرت عن استعدادها للقيام بوساطة بين روسيا والغرب لتجنب الحرب المفتوحة، ومحاولة إقناع الطرفين بأن الحرب ستكون مدمرة خاصة بالنسبة لأوروبا القارة العجوز التي ما زالت تعاني من آثار حربين مدمّرتين في النصف الأول من القرن العشرين.>