مع الأزمة الأوكرانية الأخيرة التي وضعت روسيا والغرب في مواجهة محتملة، وبغض النظر عن مساراتها ومآلاتها المحتملة، يمكن القول: إن العلاقات بين تركيا وروسيا تتعرض لاختبار صعب يضعها أمام مفترق طرق بعد سنوات طويلة من التقارب والتفاهم والتنسيق.
تعدُّ الحروب بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية بنداً رئيساً في دراسة تلك الحقبة التاريخية؛ إذ وضعت أسباب عدة، في مقدماتها الجيوبوليتيك، الجانبين على طرفي نقيض وفي مواجهة مستمرة، ولأن الأسباب الرئيسة لذلك بقيت قائمة، فقد استمر التناقض بين الجمهورية التركية والاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يسعى للوصول إلى المياه الدافئة والسيطرة على المضائق، كان ذلك، إضافة لمطالبته ببعض المحافظات التركية، أحد أهم أسباب لجوء تركيا للولايات المتحدة والكتلة الغربية ثم الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1952م.
تركيا تدرك مآلات أي مواجهة عسكرية مع روسيا ولا سيما في ظل مؤشرات تخلي «الناتو» عن أنقرة
بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي تغيرت نظرة أنقرة لموسكو، ولم يعد خطر الثانية على الأولى كما كان سابقاً، ولذلك بدأ مسار العلاقات بينهما بالتغير جزئياً، وبعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، وتحديداً في عام 2004م، كانت زيارة «بوتين» لتركيا التي دشنت محطة مهمة على طريق تطبيع العلاقات وتطويرها بين الجانبين، استمر هذا المسار الإيجابي المتدرج، الذي ركز بشكل أساسي على التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، حتى عام 2015م مع حادثة إسقاط المقاتلة الروسية «سوخوي» فوق الأجواء التركية التي أوصلت البلدين لحافة مواجهة عسكرية لم تحصل.
ما بعد ذلك؛ أي تجاوز أزمة «السوخوي»، تطورت العلاقات بين أنقرة وموسكو بشكل سريع وملحوظ، تعبيراً عن رؤية سياسية واضحة لدى كليهما، وكذلك عن جهد شخصي من الرئيسين «أردوغان»، و«بوتين» في المقام الأول، لكن أيضاً قبل هذه وتلك انطلاقاً من سببين رئيسين:
الأول: عتب تركيا على تجاهل حلفائها التقليديين في الغرب مصالحها وأمنها وحقوقها وعلاقاتها المتوترة معهم وتوجسها بخصوص مستقبل هذه العلاقات.
الثاني: فرض روسيا نفسها كأمر واقع في القضية السورية على جميع الأطراف وعلى تركيا بشكل أخص حيث باتت على حدودها الجنوبية، وبالتأكيد فإن تركيا تدرك مآلات أي مواجهة عسكرية مع روسيا ولا سيما في ظل مؤشرات تخلي «الناتو» عنها كما حصل في قضية بطاريات «باتريوت» التي كان الحلف قد نشرها على الأراضي التركية ثم سحبها فيما بعد على غير رغبة أنقرة.
العلاقات بين البلدين لم تتحول إلى تحالف وثيق بل بقيت علاقة تقارب تكتيكي على مبدأ إدارة الخلافات
دفع هذان السببان، وغيرهما، تركيا لتطبيع العلاقات مع روسيا بعد أزمة إسقاط المقاتلة، ثم تطويرها نحو مراحل متقدمة شملت الجوانب الاقتصادية والتجارية بالتأكيد، لكنها تخطتها نحو مشاريع الطاقة الكبرى مثل محطة «أك كويو» للطاقة النووية ومشروع السيل التركي للغاز الطبيعي، وكذلك صفقات السلاح الإستراتيجي حيث أصبحت تركيا أول أعضاء حلف «الناتو» اقتناءً لمنظومة «إس 400» الصاروخية الدفاعية الروسية.
تعاون لا تحالف
وعلى مدى سنوات طويلة، أنتج هذا التقارب بين الخصمين التقليديين تفاهمات وتعاوناً بمستويات متباينة في عدد من الملفات الإقليمية رغم اختلاف الرؤى والتوجهات بينهما، أهمها وأشهرها في سورية والقوقاز، وهي تفاهمات بنيت على مبدأ الربح للجميع، فقد تجنب البلدان أي صدام مباشر بينهما من جهة وعظّما مكاسبهما من جهة أخرى، ولا سيما في جنوب القوقاز بعد المعركة الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا.
لكن، ورغم كل ما سبق، لم تتحول العلاقات بين أنقرة وموسكو إلى تحالف وثيق ولا حتى إلى محور متناغم، بل بقيت علاقة تقارب تكتيكي وتفاهمات قائمة على مبدأ إدارة الخلافات؛ ذلك أن ارتباطات تركيا بحلف شمال الأطلسي والمنظومة الغربية –ورغم الخلافات في السنوات الأخيرة– أمتن من أن تنقض عراها في وقت قصير، كما أن حقائق الجيوبوليتيك وتناقض المصالح بين تركيا وروسيا ما زالت قائمة وحاضرة وفاعلة؛ إذ ينبغي التنبه إلى أن أنقرة وموسكو قوتان متواجهتان أو متنافستان في أحسن الأحوال في معظم القضايا والنزاعات الإقليمية، ولهما رؤى مختلفة حد التناقض فيها، مثل سورية وليبيا والبحر الأسود والقرم والقوقاز والبلقان، وغيرها؛ ولذلك تبقى هذه العلاقات هشّة وتتعرض كل حين إلى هزة هنا أو هناك بشكل مقصود أو عفوي، ومن ذلك التطورات الأخيرة في أزمة أوكرانيا.
ليس من صالح تركيا تفاقم أزمة أوكرانيا وانتقالها لمرحلة المواجهة العسكرية
مفترق طرق
الحشود الروسية على حدود أوكرانيا والفشل المتكرر للقاءات الروسية الأمريكية بهذا الصدد وضعت كلاً من روسيا وحلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة غير مباشرة، تطالب موسكو بضمانات من الحلف بعدم ضم كييف له، ويحذره الحلف من غزوها واحتلالها، وبين هذه المطالبات وتلك التحذيرات تزداد الحشود على الحدود وترتفع معها احتمالات التصعيد العسكري.
قبل أزمة أوكرانيا، كان التدخل الروسي في كازاخستان تحت مظلة منظمة معاهدة الأمن الجماعي مزعجاً لتركيا والغرب، لكنه لم يستدع في حينها رد فعل مبالغاً، أما الأزمة الأوكرانية فمختلفة من حيث الخلفية التاريخية والسياق والتداعيات المحتملة.
في المقام الأول، تبدو أنقرة ملتزمة بالموقف الرسمي لحلف «الناتو» والمتمثل برفض الخيار العسكري والدعوة للحوار والحلول الدبلوماسية، ولكن نبرة تصريحاتها أخف حدة بكثير بطبيعة الحال، جزئياً حرصاً على علاقاتها مع موسكو ومن جهة ثانية لعدم رغبتها في تدحرج الأحداث لمواجهة عسكرية، وكذلك لعدم ثقتها بالمواقف الغربية على المدى البعيد.
ليس من صالح تركيا تفاقم الأزمة وانتقالها لمرحلة المواجهة العسكرية بغض النظر عن مستواها؛ فهي ستضعها إزاء خيارات صعبة بين «الناتو» وروسيا، كما أن تداعيات أي حرب ستكون سلبية على اقتصادها الذي يسعى للخروج من الأزمة، فضلاً عن ارتداداتها المحتملة في أكثر من مكان.
كما أن مواجهة عسكرية ولو محدودة بين الجانبين ستوجب على أنقرة أن تتخذ قرارات صعبة، مثلاً بخصوص السماح بمرور قطع حربية من مضائقها باتجاه البحر الأسود، حيث إن القبول سيعرض علاقاتها بموسكو لهزة كبيرة، بينما الرفض سيفتح النقاش على مدى التزامها بعضوية «الناتو» وتوجهاته.
سياسة تركيا الساعية لتوازن نسبي بين روسيا والغرب ستكون مهمتها أصعب في الفترة المقبلة
ولذلك، فقد عرضت أنقرة الوساطة بين موسكو وكييف، وقد رحبت الأخيرة بهذا المقترح وإن لم تجبه الأولى بالإيجاب حتى لحظة كتابة هذه السطور، وأعلنت الرئاسة التركية أن «أردوغان» سيزور أوكرانيا مطلع فبراير، وأن محادثات «مينسك» بين روسيا وأوكرانيا ستتم في تركيا، بما يوحي بأن الطرفين قد يقبلان بوساطتها لاحقاً.
في الخلاصة، تضع أزمة أوكرانيا العلاقات التركية الروسية على مفترق طرق، وبالتأكيد الطرفان حريصان على عدم وصولها لحالة القطيعة الكاملة، لكنها لن تكون بنفس دفء السنوات السابقة، ولا سيما مع الضغوط المستمرة التي تمارسها الولايات المتحدة على تركيا بخصوص العلاقات مع روسيا؛ وعليه، فإن سياسة تركيا الساعية لتوازن نسبي بين روسيا والغرب ستكون مهمتها أصعب في الفترة المقبلة.
_________________________________________________________
(*) محلل سياسي مختص بالشأن التركي.