شاركت بالتحكيم في مسابقة للأطفال، أفزعني التدخل الواضح لبعض الأهل في كتابة وصياغة مشاركات لأطفالهم، والنقل من أبحاث منشورة وإدخال تعديلات طفيفة عليها لتبدو وكأن الصغار هم الذين كتبوها، وتذكرت طرفة مشهورة لمعلمي الأطفال الذين ينصحون الأهل عندما يكتبون الواجب بدلاً من أولادهم ألا يبالغوا بتقليد خط الصغار فسيكشفون أنفسهم.
كانت أيدي الأهل واضحة بالفيديوهات الترويجية التي قام بها الأطفال للدعاية لمشاركاتهم؛ فسيطر التمثيل المبالغ به على أداء معظم الأطفال.
تناسى هؤلاء أن الإبداع يقوم على حرية التفكير وانطلاقه بعيداً عن القيود، وأنهم يقومون بوأد فرص أطفالهم بالفوز بالإبداع الحقيقي وليس الزائف، ويقومون بتلقينهم دروساً واقعية بالغة السوء؛ مثل أنك لن تبدع وحدك فلن تستطيع وستحتاج لنا دوماً، والأسوأ أنك إن لم تستطع الإبداع فلتأخذ إبداع غيرك، ولتفُز بما ترغب، فكل شيء مباح! والمؤسف أنهم يصرخون بوجوه أولادهم ويمطرونهم بوابل من المحاضرات عن احترام حقوق إخوته!
نود أن يعرف الطفل منذ نعومة أظفاره أن الإبداع يأتي كثمرة لتفكير وجهد، ولن يلقيه أحد إليه، وكلما أخلص لإبداعه سيعطيه المزيد والمزيد ولو بعد حين، ويجب ألا يتعجل قطف الثمار، ويمنحها الوقت الكافي ليستمتع بمذاقها الطيب ورائحتها الذكية، والإبداع ليس فرصة يخطفها من بين أيدي الآخرين أو وساماً يضعه على صدره وإن لم يستحقه؛ بل نور لطيف ينتشر ببطء وبهدوء بعقله وعمره وليس ضوءاً زاعقاً يستمر لأيام ثم يخبو لأنه لم يكن حقيقياً.
المؤلم أنهم فعلوا ذلك في مسابقة لن يجلب العار لأطفالهم عدم الفوز بالمركز الأول أو حتى خسارة كل الجوائز؛ وأن من يربح بالغش سيظل دوماً بحالة عطش للشعور بتحقيق حقيقي للذات، أو سيتمادى بالغش والكذب، والأبشع أن يعتبرهما شطارة وذكاء!
راقبت كثيراً أعين الصغار وهم يؤدون المشاهد بالفيديوهات؛ كان غالبيتهم كالروبوت يؤدي بلا إحساس وبلا اقتناع، وكان على الأهل منحهم الفرصة للتعبير بتلقائية عما يريدون قوله عن قصصهم، مع التوجيه قبل التسجيل وليس أثناءه لمنح الطفل الفرصة ليعبر عن نفسه، وهو جوهر أي إبداع.
وأد الإبداع
يترافق الإبداع بالتفكير خارج المألوف وكسر القوالب المعدة سابقاً وامتلاك الجرأة لمغادرتها، والأهم الاستمتاع بما يؤديه الإنسان أياً كان عمره، فهو إضافة لصاحبه وليس قيداً، فإذا لجأ الأهل لحرمان الطفل من كل ذلك أغلقوا بوجهه أبواب الإبداع، وسيكون أمامه العيش داخل القيود طوال عمره، أو المجاهدة بوعي ومثابرة وقوة نفسية وطاقات ذهنية مميزة ليحطمها، وليبني نور إبداعه الخاص؛ وهو ما يصعب على الكثيرين، ونناشد الأهل بالتوقف عن وأد إبداع أطفالهم؛ ومن أبرز سلوكيات الوأد ما يلي:
نبدأ بإسكات الطفل عندما يريد التعبير عن نفسه؛ كشرح ما يضايقه وما يرغب به بالصراخ بوجهه وقول الكلمة القاسية: اختصر، أو لماذا لا تتكلم كفلان؟ فلكل إنسان شخصيته الخاصة كبصمته الخاصة، وحتى ورق الشجر لا يتشابه، فلماذا يلغي بعض الأهل ما يميز أطفالهم، سعياً لما يرونه معتاداً؟ وننبه للفروق الشاسعة بين سعي الطفل لجذب الأنظار أو اتباع أسلوب “خالف تُعرف”، وما يُميز الطفل حقيقة؛ فالأول مرفوض والثاني مطلوب.
نتوقف عند خطأ شائع -مع الأسف- وهو قيام بعض الأهل بكتابة الواجبات المدرسية أو الأبحاث المطلوبة للأبناء لمساعدتهم أو للتخفيف عنهم، أو لأنهم يرون أن ذلك أسهل من تعليمهم بعض المهارات، أو توفيراً للوقت الذي يقضونه معهم.
من أبجديات الإبداع الرغبة بفعل شيء جديد، والشعور بالاحتياج لفعله، وأنه سيمنح صاحبه نوعاً من المتعة أو الرضا عن النفس والفرح بالتميز.
يحرم الأهل من إبداع أطفالهم بالمبالغة بإشعارهم أنهم رائعون بما يكفي، وكل ما يفعلونه بالغ التميز والإكثار من مدحهم، ويصنعون بعضاً من الغرور داخل عقول وقلوب أطفالهم، والغرور أشد قاتل للإبداع؛ فلسان حال المغرور لماذا أفعل المزيد وأنا رائع بأكثر مما ينبغي أو لا أحتاج لأكون أفضل؟ ولا أحد لا يمكنه أن يكون أحسن ما بقي بالحياة.
من أعداء تنمية الإبداع لدى الأطفال رفض الأهل لأي محاولة للتجديد من الطفل سواء باللعب أو بالرسم أو بكتابة أو حكي قصة، والإصرار على حبسه بإطار كل ما هو مألوف؛ وكأننا نقوم بقص أجنحة طائر ثم نستغرب لماذا لا يطير!
من حق الطفل فعل ما يشاء خارج نطاق المذاكرة، واللعب وممارسة الهوايات هما التربة الرائعة التي لا تعوض لتنمية مهارات الطفل الإبداعية وعدم السخرية منه أو مطالبته بالتقيد بأسلوب للكتابة أو لقيود الرسم وهو صغير؛ فهو يكتب أو يرسم ليعبر عما يشعر أو يفكر به وليس عما يرغب الآخرون، ويجب التنبه لذلك.
لغة وألعاب
لينجح الطفل كمبدع مستقبلاً يجب الاهتمام بمهاراته اللغوية بلغته الأم؛ وأن يتوقف الأهل عن تعمد الكلام مع الطفل بالبيت باللغة الأجنبية ليتقنها؛ وثبت أن المبدعين لا بد أن يفكروا جيداً بلغتهم الأم، وعلى الأهل الكلام مع الطفل باللغة الأجنبية لبعض الوقت فقط وتجنب المبالغة، والإكثار من حكي القصص له بلغته الأصلية.
يُقال: أبدع فلان؛ أي أنشأ وفعل شيئاً جديداً، فلنشجع الأطفال على الابتكار والتجديد، ويمكن كمثال بالألعاب التي يكوّن معها عدة نماذج للتشكيل أن نقترح على الطفل -إذا رغب- أن يصنع شكلاً آخر غير النماذج المرفقة باللعبة؛ ولا نفرض عليه ذلك حتى لا يكون عبئاً نفسياً أو تحدياً لإثبات مهارته، وهذا يرهقه نفسياً ويقلل كثيراً من فرصة الإبداع لديه.
لن تأتي النتيجة رائعة؛ فلنتنبه ولا نسفّه من إنجازه ولا نبالغ بالتهليل له؛ فالطفل ذكي وسيلحظ ذلك وسيؤلمه أو سيغتر إن لم ينتبه.
من أعداء الإبداع السماح للطفل بقضاء أوقات طويلة أمام الإنترنت والألعاب الإلكترونية والتواصل الاجتماعي، ويجب تخصيص أوقات لها، وملء أوقات الطفل بأنشطة تنمي عقله وتجعله نشيطاً حركياً واجتماعياً؛ فالمهارات الاجتماعية تزيد من قوة ملاحظته وتثريه إنسانياً وتجعله أكثر تفتحاً للإبداع عكس الانغلاق على العالم والاكتفاء بالإنترنت كمصدر أساسي للمعلومات، وأحياناً كأهم مصدر للتواصل الاجتماعي.
عندما يخطئ الطفل، لا تصرخ بوجهه خاصة أثناء تعلم مهارة ما؛ ولا تصفه بالغبي أو بالفاشل، ولا تقل: هذه قدراته؛ وقل بهدوء: لقد تسرعت، امنح نفسك الوقت الكافي وستكون جيداً وشجعه بلطف وبلا مبالغة.
عندما يشكو الطفل من أحد أو من مشكلة يجب ألا يتسرع الأهل بمنحه الحل؛ فيعطل قدراته على التفكير ويجعل شخصيته اعتمادية، والأفضل سؤاله ماذا ترى الحل؟ والهدف ليس وصوله للحل المناسب؛ فكثيراً ما يصعب عليه ذلك، ولكن جعله يعتاد التفتيش عن الحلول وتجنب السعي لأخذ الحلول الجاهزة، وبث الثقة بنفسه واسترداد هدوئه الداخلي والتفكير بأنه يستطيع مواجهة مشكلته.
عندما لا يعجبنا حله نقول له باحترام: جيد أنك فكرت، ولنرَ حلاً آخر ونصبر ونكرر، وإن وصل للحل المناسب نحتفل به بلا مبالغة حتى لا يكتفي بذلك، ونكافئه.
وإن لم يصل لحل ناجح نربت عليه بحب واحترام ونقول له: إننا فخورون به لأنه فكر، ونطرح عليه الحل الذي نراه مناسباً.
الإبداع ليس رفاهية للطفل، ولكنه ضرورة ليسعد بحياته وليتمكن مستقبلاً من الصمود أمام تحديات الواقع ولا ينحني أمامها.