البيان المشترك الذي أصدره الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً يمثل بداية فصل جديد من العلاقات الدولية، يوصف بأنه نهاية الهيمنة الأمريكية، فهل تحقق ما سعى بايدن لإجهاضه؟
ففي 4 فبراير/شباط، وعلى هامش أولمبياد بكين الشتوية الجارية حالياً في الصين، التقى بوتين وشي جين بينغ، وأصدرا بياناً مشتركاً عن دخول العلاقات الدولية حقبة جديدة، والحديث هنا عن العلاقات الدولية بشكل عام وليس فقط العلاقات الثنائية بين موسكو وبكين.
وتناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي قصة ذلك البيان وما يعنيه للمسرح السياسي العالمي، في تحليل عنوانه “تفاصيل بيان بوتين-شي المشترك عن “الحقبة الجديدة”. ومن أكثر ملامح هذا البيان المشترك المؤلف من 5000 كلمة لفتاً للانتباه الوصف الدقيق للعلاقة بينهما.
إذ يصف البيان العلاقة بين روسيا والصين بأنها شراكة استراتيجية شديدة القوة والشمول بدرجة، على حد تعبير بوتين سابقاً، تجعل منها “علاقة لا يمكن تشبيهها بأي شيء في العالم”.
هل سارع بايدن بذلك التقارب؟
عندما تولى الرئيس الأمريكي جو بايدن المسؤولية خلفاً لدونالد ترامب كان الملف الوحيد المشترك بينهما هو موقف الولايات المتحدة من الصين، وهو الصراع، واعتبار بكين المنافس الأخطر لواشنطن على زعامة النظام السياسي العالمي. وفي الوقت نفسه سعت إدارة بايدن إلى عدم تصعيد الخلافات مع روسيا وزعيمها بوتين، خشية أن يؤدي ذلك إلى تحول التقارب بين موسكو وبكين إلى تحالف عسكري في مواجهة أمريكا والغرب.
وكان تقرير لمجلة Politico الأمريكية قد سلّط الضوء على مخاوف بايدن، ما قد ينتج عن “علاقة الصداقة بين بوتين وشي” إذا ما حدث تحالف كامل بين بكين وموسكو، ورصد كيف أن مستشاري بايدن قدموا له تقارير استخباراتية تفصيلية حول طبيعة العلاقة بين روسيا والصين، كجزء من الاستعداد لقمة الرئيس الأمريكي مع بوتين في جنيف، في يونيو/حزيران الماضي.
وعلى مدى عقود طويلة كان العداء، الذي وصل إلى حد الحرب هو عنوان العلاقة بين روسيا والصين رغم كونهما ينتميان إلى المعسكر الشيوعي، لكن الحزب الشيوعي الروسي ونظيره الصيني كانا أعداء، ووصلت الأمور إلى حد الحرب.
وتوسعت روسيا في الشرق الأقصى على حساب الصين، كما تواجَه البلدان عسكرياً خلال ستينيات القرن الماضي، لكن ذلك العداء بالطبع لم يكن عنوان العلاقة طوال الوقت، ففي الأربعينات من القرن الماضي وصلت العلاقات لذروتها بين البلدين، بعد وصول الحزب الشيوعي للحكم في الصين بدعم من الاتحاد السوفييتي الذي ساند التدخل العسكري الصيني في الحرب الكورية ضد أمريكا.
لكن التعاون الوثيق بين البلدين، والذي انطلق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، له نسخة أقدم وأوثق خلال فترة مواجهة التوسع الياباني في آسيا، كان الاتحاد السوفييتي خلاله أبرز حليف للقوى الصينية التي تتصدى للغزو الياباني، وواصلت موسكو دعم بكين بعد تحول الأخيرة للشيوعية في نهاية أربعينيات القرن العشرين بفضل الدعم السوفييتي للحزب الشيوعي إلى حد كبير.
وكان أكثر مجالات التعاون بينهما في فترة الصداقة الشيوعية هو مجال التقنية العسكرية، حيث نقلت موسكو أهم تقنياتها مثل تكنولوجيا الطائرات ميغ 19 وميغ 21 وغيرهما، التي ظلت تنتجها الصين لفترة قريبة، إلى أن توترت العلاقات بينهما خلال الستينيات، وتحولت إلى صراع حدودي تفوَّق فيه الروس (الاتحاد السوفييتي)، كاد يتحول إلى حرب كبرى.
لكن منذ قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أصبحت الصين “دولة ذات أهمية قصوى” لروسيا، وعام 1997 وقّع الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين والزعيم الصيني آنذاك جيانغ زيمين “الإعلان الروسي الصيني المشترك لعالم متعدد الأقطاب وإقامة نظام دولي جديد”.
ثم جاء بوتين قبل أكثر من عقدين وأخذ يطور العلاقات مع بكين بصورة متسارعة، ومع وصول شي إلى مقعد القيادة في الحزب الشيوعي الصيني، ساهمت الطبيعة الشخصية المتقاربة بين الزعيمين والصداقة بينهما في إيصال العلاقات إلى مستويات متقدمة للغاية باتت أقرب إلى التحالف منها إلى الصداقة أو العلاقات القوية فقط.
ورغم أنه كان ولا يزال ربما من الصعب تخيل قيام تحالف كامل بين موسكو وبكين، فإن العلاقة البراغماتية الخاصة التي تجمع بين بوتين وشي باتت تمثل حجر الزاوية في القلق الأمريكي من حدوث مزيد من التقارب بين موسكو وبكين قد يتحول إلى تحالف استراتيجي على جميع الأصعدة.
بيان بوتين وشي “وثيقة تاريخية”
ريتشارد سكوا، أستاذ السياسة الروسية والأوروبية في جامعة كنت، وصف البيان الصادر عن شي وبوتين بأنه “وثيقة تاريخية”، وقال إن كون هذا البيان مشتركاً هو في حد ذاته “تجسيد للمبادئ الواردة فيه”.
إذ يرى سكوا، بحسب موقع ريسبونسبل ستيتكرافت الأمريكي، أن ذلك البيان من حيث الجوهر قائمة بالمجالات التي ستتعاون فيها روسيا والصين، التي تشمل التنمية والتكنولوجيا والنقل وتغير المناخ والصحة والإرهاب والحد من التسلح وأمن الذكاء الاصطناعي وغيرها. وزعما أيضاً استعدادهما للعمل مع جميع الشركاء الدوليين في عالم متعدد الأقطاب.
وتتجلى أهمية الرؤية الروسية الصينية هنا بوضوح بإدراجها في مقدمة الفقرة الأولى. وتشير إلى “التعددية القطبية” بأنها أول هذه “التغيرات المهمة” في “الحقبة الجديدة”. ويعرب الطرفان عن رغبتهما في وجود دور للأمم المتحدة في نظام عالمي لا تقوده دولة مهيمنة تفرض معاييرها على رقعة شطرنج أحادية القطب، وتشكل “تهديدات خطيرة للسلام والاستقرار العالمي والإقليمي وتقوض استقرار النظام العالمي”.
ويُشدد هذا البيان المشترك أيضاً على أنه في هذه الحقبة الجديدة “سيكون الاتجاه نحو إعادة توزيع السلطة في العالم”، بحيث يكون لكل دولة صوت “يعزز علاقات دولية أكثر ديمقراطية”. وهنا نصل إلى الجانب الأبرز في هذا البيان المشترك: التركيز على الديمقراطية. ففي بيان روسيا والصين المشترك عن دخول العلاقات الدولية حقبة جديدة، تُشعران بضرورة إلقاء محاضرة على أمريكا والغرب عن الديمقراطية.
والمحاضرة مكونة من جزئين: الحكم الديمقراطي داخل كل دولة، والديمقراطية الدولية بين البلدان في عالم متعدد الأقطاب. ويدعو القسم التمهيدي في هذه المحاضرة إلى “مساندة القيم الإنسانية العالمية مثل السلام والتنمية والمساواة والعدالة والديمقراطية والحرية”، لكنه يؤكد على أنه “لا يوجد نموذج واحد يناسب جميع البلدان في إرساء الديمقراطية”، ولذا يتعيّن على جميع البلدان “احترام حقوق الشعوب في تحديد مسارات تنمية بلدانها بنفسها”.
تعريف روسيا والصين للديمقراطية
على أن روسيا والصين تعرضان تعريفاً غير تقليدي للديمقراطية، حيث تعرّفانها بأنها “وسيلة لمشاركة المواطنين في حكومة بلدهم، بهدف زيادة راحة الشعوب وتنفيذ مبدأ الحكومة الشعبية”.
ولم يفُت البعض بالطبع الإشارة إلى أن هذا معيار متدنٍّ، مقارنةً بما تقدمه الديمقراطيات الغربية، التي ترى أن النظامين الروسي والصيني الحديثين لم يُعرفا يوماً بالتزامهما “بالقيم العالمية”، المتمثلة في “المساواة، والعدالة” أو حتى الحرية، وأن “نموذجيهما” ربما يكونان مختلفين تماماً.
ويقول سكوا إن روسيا والصين بذلك تدعوان لـ”مبدأ أساسي… من “الحداثات المتعددة”… أي أنه توجد طرق مختلفة للحداثة، وهي ليست غربية بالضرورة”.
ويقول البيان إن كل دولة لها أن تختار نموذج الديمقراطية الذي يناسبها، والذي يأخذ في الاعتبار خلفيتها الاجتماعية والسياسية والتاريخية والثقافية، وإن الشعب وحده هو من يقرر إن كانت بلاده ديمقراطية أم لا. ويقول سكوا في هذا الشأن: “بوتين لطالما اعتبر نفسه ديمقراطياً”، ويؤكد البيان أن روسيا والصين “قوتان عالميتان لهما تراث ثقافي وتاريخي غني بتقاليده الديمقراطية القديمة”.
وكثيراً ما استمدت روسيا من تراثها ممارسات لتطوير نظام حكمها. يقول سكوا في كتابه The Putin Paradox: “ولذلك تبدو “الثورة الديمقراطية” في روسيا مختلفة دوماً عن منظور النظريات الكلاسيكية لإرساء الديمقراطية”.
لكن الجزء الأهم في هذا البيان المشترك هو تذكيره بما يصفه محللون بأنه “نفاق أمريكي”، حيث تؤكد واشنطن على أن رؤيتها الخاصة للديمقراطية هي النموذج الوحيد المقبول.
فالولايات المتحدة تفرض الديمقراطية على الدول، وبالتالي لا يمكن رفع الحصار المفروض على كوبا حتى تصبح كوبا ديمقراطية متعددة الأحزاب، لكن واشنطن تصر أيضاً على عالم أحادي القطب، تُحرِّم فيه الديمقراطية بين الدول وتحكمه الولايات المتحدة مثل السلطات الاستبدادية.
ويشير البيان إلى أن “بعض الأطراف الفاعلة التي تمثل أقلية على المستوى الدولي تواصل الدعوة إلى نهج أحادي لمعالجة القضايا الدولية وتلجأ إلى القوة”.
وعلى هذا المستوى العالمي وضع البَلدَان رؤيتهما البديلة. وفي الوقت الذي تتفاقم فيه أزمة روسيا مع أوكرانيا، وأزمة الصين مع تايوان، فإن تصريحهما بأن “صداقتهما لا حدود لها” ليس بالهين.
والخلاصة هنا هي أن ذلك البيان الاستراتيجي الصادر عن شي وبوتين يمثل تجسيداً لما كان بايدن يخشاه تحديداً، وهو أن تتحالف الصين وروسيا معاً في مواجهة المعسكر الغربي.