في 2 فبراير 2022، سطرت مقالاً تحت عنوان “تحليل مختصر عن الحالة الأوكرانية”، وكان السؤال: هل ستنطلق شرارة الحرب بين روسيا وحلف “الناتو” حال غزو روسيا لأوكرانيا؟
وكانت الإجابة استبعاد حرب بين الأطلسي وروسيا؟ بسبب مأزق الفجوة الإستراتيجية لجميع الأطراف.
وتوقعنا السيناريو المحتمل هو احتلال سريع لأوكرانيا وتقليد نظام سياسي موالٍ لروسيا.
وهذا ما يتم محاولة تنفيذه من قبل روسيا، حيث اعترفت روسيا في 21 فبراير 2022م بجمهورية (دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية)، وبعدها تم غزو أوكرانيا يوم 24 فبراير واستهدفت القوات الروسية أهدافاً عسكرية، وتدهورت البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الأوكرانية، كما تم السيطرة على محطة تشيرنوبيل النووية الأوكرانية. ويومها أعلن الرئيس الأوكراني الأحكام العرفية في جميع أنحاء أوكرانيا.
وقد ختمت ذلك المقال أن السيناريو سيؤدي إلى حالة من التضعضع في النظام العالمي وتدحرجه إلى مزيد من اللايقين ويؤدي إلى ضعف تماسكه كنظام مستقر والاتجاه إلى حالة تفرد القوى لتصبح أقطاباً وهي بداية مرحلة تشكيل حالة من الضبابية لنظام عالمي جديد غير مكتمل النمو، ويجعل الملفات الفرعية تنفلت نحو التطرف الذي يذكي الصراعات المحلية والإقليمية والدولية” انتهى.
والجدير بالذكر أنه من المبكر الحكم على نتائج هذا السيناريو (غزو أوكرانيا) فالحرب بدأت ونهايتها غير معلنة.
وعادة ما تتسارع الجماهير إلى إطلاق أحكام دامغة أو نهائية أو فاصلة بشكل عاطفي منجذبين إلى لغة القوة ومنطق فرض السيطرة وتحديد المنتصر والمنهزم في هذه الحرب، وإسباغ عبارات القوة والصلابة والشجاعة والإقدام على بوتين وقراره الحازم في عملية عسكرية تتوغل في أوكرانيا، ويتبارى محللون إلى وسم بايدن والأوروبيين بالخداع والعنف والهزيمة والغدر لحليفهم الأوكراني، معتمدين على ضعف الجهد والنصرة المقدم للرئيس الأوكراني والأوكرانيين.
ومن جهة أخرى، يتحاذق البعض في وصم خداع بايدن والأوروبيين لبوتين لإيقاعهم له في فخ أوكرانيا ولاستنزافه دون أن يخسروا شيئاً، وكأن بوتين طالب جاهل لا يفهم قواعد السياسة أو نتائج الحروب.
هذه التحليلات أو الأحكام عادة ما تكون ضحلة أو مضللة، وفي الحقيقة لا يوجد في النظام السياسي العالمي والدولي الجاد أغبياء وجهلة، هذه سياسات ومواقف وحروب وتدافعات تقوم على خبرات وتخصصات ومؤسسات تخطيط إستراتيجي، حيث تقدم تلك المؤسسات لأصحاب القرار السياسي تقدير موقف مدروس للحدث، ربما في عالمنا العربي تنتشر ثقافة الجهل الإستراتيجي والتخطيط المؤسسي وثقافة الانحياز العاطفي في المواقف والتحليلات، وعليه فإنه من المهم عمل مقاربة للحالة الإستراتيجية للأطراف الفاعلة في هذه الحرب، تنطلق من التأسيس التالي:
القاعدة الأولى: بناء سيناريوهات متعددة للقرار السياسي بالحرب أو السلام:
في النظام الدولي وعلاقاته وتدافعاته تعزز القرارات على أساس دراسة الحالة الإستراتيجية والدراسات النفسية للقادة السياسيين والعسكريين، وتقوم باستخلاص تقدير موقف ورسم سيناريوهات مختلفة تحسباً لتغيير البيئة الداخلية بسبب ضغوطات القرار السياسي بالحرب، أو بسبب عوامل خارجية أقوى تغير مسار عوامل التخطيط العسكري في الحرب، كما لاحظنا هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية في شتاء ليننغراد وحصار كييف.
القاعدة الثانية: النظرية الجيوستراتيجية في توظيف الجيوبوليتيك الخاص بالدولة:
وهنا نقصد أن لكل دولة إمكانات وموقعاً جغرافياً إستراتيجياً وقدرات سياسية، واقتصادية وقوة عسكرية وتقنية وديمغرافية، حيث توظفها الدول لتحقيق محيط حيوي خاص بها (جيوستراتيجي) والنظرية الإستراتيجية هي كيف توظف الدولة نقلة القوة في الجغرافيا التي تحيط بها، إما بالتفاوض أو بالحرب أو بهما معاً.
وحيث تنطلق كل من الولايات المتحدة وحلفائها وكذلك روسيا في توفير استحقاقات المحيط الحيوي القادر على توسعة المصالح والأهداف والنفوذ والسيطرة في جغرافية العالم وموارده.
في العشرين سنة الماضية، حدث تمدد وازدهار ونمو للقوة الجيوبوليتيكية لروسيا بقيادة بوتين، وكذلك للصين، على حساب الولايات المتحدة وأوروبا، ونزعت روسيا والصين لتوسيع محيطهما الحيوي بسبب تراكم الطاقة الجيوبوليتيكية ونموها وحاجتها للتمدد مما يشكل تهديداً للمحيط الحيوي للولايات المتحدة وتحالفهما في بحر الصين وخطوط التجارة البحرية العالمية، وكذلك تمدد روسيا في الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق أوروبا وفي جزيرة القرم وبيلاروسيا وجورجيا.
مما أوجد حالة استقطاب دولية عبرت عن نفسها بإيجاد منظومات دولية اقتصادية وعسكرية وسياسية تجمع روسيا والصين ودولاً إقليمية أخرى على حساب الولايات المتحدة وحلفائها مما ينذر بتغير النظام العالمي لحالة الأقطاب المتضادة التي سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ويأتي قرار الحرب في أوكرانيا منسجماً مع التمدد الحيوي (الجيوستراتيجي) لروسيا والاتجاه بذلك المحيط الحيوي لسياسة حشد الأقطاب الجديدة.
وفي الجانب الآخر، فإن الولايات المتحدة تسعى لاستعادة أوروبا من جديد لإدامة محيطها الحيوي في أوروبا لمواجهة روسيا بوتين الجديدة.
القاعدة الثالثة: لا فائز في الحرب، وإنما خسائر طرف أقل من الطرف الآخر:
قد ينظر الإنسان المراقب العادي بأن ما يحدث في أوكرانيا هو فوز لروسيا على حساب الأطلسي وحلفائه وخسارة أوكرانيا.
والحقيقة أن كل الأطراف خاسرة في هذه الحرب، ومن المبكر الحكم من هو الأكثر خسارة حتى نهاية هذه الحرب التي قد تنتهي خلال أسبوع أو تستمر لأشهر قادمة، والسبب في ذلك أن روسيا لا تواجه أوكرانيا الأضعف عسكرياً، وإنما تواجه الحلف الأطلسي والولايات المتحدة وأوروبا بإمكاناتها وسياساتها، ويمكن لهذه القوى أن تجعل من أوكرانيا مأزقاً إستراتيجياً لروسيا على المدى المتوسط.
لقد أدت التصريحات والسياسات الأوروبية ولأمريكا خلال الأيام الماضية (26 فبراير، 27 فبراير) واليوم 28 فبراير إلى إعلان بوتين تعبئة جزء من القوة النووية الروسية وبقاءها تحت الجاهزية؛ مما يعني أن الأزمة في بدايتها، وقد تتطور لصراع دولي ولكن على أرض أوكرانيا وعلى الحدود الروسية.
لذلك، إن لم يتم حسم المعركة فإن من الصعوبة القفز من القارب إلا بخسائر ولو على المدى البعيد، ويعد النموذج الأمريكي في أفغانستان والعراق خير دليل على نهاية الحروب والفوز بها.
والآن ننتقل بعد هذا التأسيس إلى تحليل الحالة الجديدة بعد غزو روسيا وأوكرانيا.
استثمار الولايات المتحدة لحالة الحرب:
قد يتبادر إلى جموع الجماهير أن الولايات المتحدة اتخذت قراراً بعدم إرسال قواتها للدفاع عن أوكرانيا بأنه قرار جبان، وهو تراجع وضعف، وهذا بالطبع وصف أطلق من كثير من المحللين أيضاً ومن معارضي بايدن في الحزب الجمهوري، لكن عادة ما تكون قرارات دخول الحرب عند الإستراتيجيين لا توصف بهذه الأوصاف، وإنما بحساب الأرباح والخسائر من اتخاذ موقف دخول حرب مباشر ضد روسيا في أوكرانيا.
فوفق تصريح بايدن أمس (27 فبراير) أن بوتين أمام خيارين، إما حرب عالمية ثالثة وهذه لن تقدم عليها الولايات المتحدة، أو فرض عقوبات على مختلف المستويات ما لم يتراجع وينسحب من أوكرانيا.
لقد حققت الولايات المتحدة عدة مكاسب من هذا القرار، فالولايات المتحدة بوضع أوكرانيا في فوهة المدفع الروسي، ووعدها بقبول للطلب الأوكراني للدخول لحلف الأطلسي الذي وعد بايدن الرئيس فولوديمير زيلينسكي (رئيس أوكرانيا)، أثناء الحملة الانتخابية ويعلم بايدن تماماً ماذا يعني ذلك للروس، فقد حرك بايدن الدب الروسي واستفزه لحسم خيار الحرب، فالحرب تكلف روسيا في اليوم ما يقارب المليار دولار، وهو استهلاك للخزينة الروسية، إذا ما امتدت الحرب لأسابيع وبالتالي استطاعت الولايات المتحدة خلف فزاعة بوتين وروسيا النووية وتهديدها الأوروبيين، فالأوروبيون أمام خيار مواجهة الروس لسياسات عزلة اقتصادية وسياسية ولوجستية أو الخضوع لمنطق روسيا القوية الجديدة المهددة للأمن الأوروبي.
وبالتالي، فإن الحالة الأوروبية التي شتتها ترمب في حقبته حيث ضغط على البريطانيين للخروج من الاتفاقية الاقتصادية الأوروبية وأوقف الدعم عن الحلف الأطلسي، وكذلك ما ساهم به خلاف بايدن مع ماكرون بشأن بناء الغواصات النووية لأستراليا كله ساهم في ضعضعة حالة الاتحاد الأوروبي عسكرياً وسياسياً.
وتأتي خطوة المزايدة الإعلامية والدعم اللوجستي والتصريحات الاستفزازية الأمريكية لتعيد بناء لحمة الأوروبيين في موقف موحد تجاه روسيا وإعادة توحيد الأطلسي وأوروبا الاقتصادية في قراراتها الجديدة.
وبالتالي كسبت الولايات المتحدة استثماراً جديداً في الأزمة وتوظيفها لتحالف قوى تجاه الصين (السيناريو الأسوأ والمتوقع)، حيث إن أوروبا لم تكن معنية بخلاف الولايات المتحدة مع الصين، وبالتالي فإن أوروبا تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة في الأطلسي لمواجهة روسيا الجديدة في أوكرانيا ولكن كلٌّ له حسابه في مستقبل الصراع المتوقع مع الصين.
ثانياً: إدخال الدول المحيطة بأوكرانيا إلى دائرة الخوف من الدب الروسي المتقدم لينصب صواريخه على حدودها إذا ما تم اجتياح أوكرانيا وتغير نظامها من هذه الدول (بولندا، سلوفاكيا، هنغاريا، رومانيا، مولدوفيا)، وكل هذه الدول قد دخلت كدول في حلف شمال الأطلسي منذ عام 1999 – 2004 لكن بعضها كان متردداً في نصب صواريخ إستراتيجية على أراضيها، وها هي الآن أصبحت على مرمى المحيط الجنوبي والغربي لروسيا، وبالتالي فإن هذه الدول أصبحت أكثر قناعة لنصب صواريخ وتخزين أسلحة دمار شامل واستحداث قواعد للأطلسي على أراضيها، وهو استثمار ناجح للولايات المتحدة.
ثالثاً: لم يوجد أي مبرر لنقل قوات أمريكية في العقد الماضي إلى دول ملاصقة لأوكرانيا أو لدول شرق أوروبا كاليونان ورومانيا وهذا ما حدث، فالقوات الأمريكية متواجدة عملياً على أرض بعض هذه الدول حالياً بما يعزز المكانة الإستراتيجية للولايات المتحدة.
رابعاً: كانت الدول الأوروبية والولايات المتحدة تحتاج لذريعة لمنع الغواصات والأساطيل العسكرية البحرية الروسية عبور البحر الأسود، وأتت الفرصة الآن لإحراج تركيا لتفعيل اتفاق الدردنيل، ولتقوم بمنع هذه السفن من المرور، وإذا ما تم تطبيق العقوبات الاقتصادية بجدية، فإن السفن التجارية الروسية أيضاً ستجد نفس المصير.
خامساً: لم تستطع الولايات المتحدة سابقاً بأن تضع أوروبا ودول أخرى لفرض عقوبات روسيا خصوصاً بعد احتلالها لشبه جزيرة القرم وللانفصاليين في إقليم دونباس (دونتسيك ولوغانسك) وكذلك عند التدخل في سورية وغيرها، ونضجت الحالة الأوكرانية هذه العقوبات لتصبح العقوبات الأمريكية الأوروبية والدولية الأوسع منذ الحرب الباردة.
فقد بدأ الحصار الاقتصادي لروسيا حيث تم الاتفاق على إقصاء وفصل بنوك وهيئات روسية محددة من نظام “سويفت” المالي البنكي واتخاذ إجراءات ضد البنك المركزي الروسي بتجميد أمواله في البنوك الأوروبية ولمنع روسيا للوصول إلى احتياجاتها المالية وتأثير ذلك على طبقة الأثرياء الروسية (طبقة كبيرة منهم قادة في الأمن والجيش الروسي) في عدم استخدام أموالهم.
وضرب البورصة الروسية وتأثير ذلك على الأسواق العالمية، ولذلك فإن 80% من الشركات التي يعتمد عليها الاقتصاد الروسي ستتضرر، ترك فقط 20% منها ليعتمد عليها الشعب الروسي في أزمته.
وبالطبع، يدرك الشعب الروسي أن ذلك سيهدد نظامهم المالي، لكن الولايات المتحدة استطاعت جر الأوروبيين لتطبيق هذه العقوبات ضد روسيا ولم تكن تحلم بذلك من قبل.
سادساً: لقد أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى تحفيز دول أوروبية كألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا لمزيد من إرسال مساعدات عسكرية مباشرة إلى أوكرانيا.
ولأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية تعلن ألمانيا عن خروجها عن السياق العام من سياساتها في دعم الأطراف المتحاربة في أوروبا وتدعم طرفاً تعرض لهجوم، بقرار منفرد أعلن المستشار الألماني في كلمته أمام البرلمان الألماني، في 27 فبراير، وهي سابقة تاريخية.
وألمانيا دولة أوروبية عظمى لها وزنها العسكري والمادي.
وأعلنوا بدعم أوكرانيا بـ 1000 قذيفة مضادة للدبابات و500 صاروخ ستينغر المضاد للطائرات.
وقدمت الولايات المتحدة منذ الأزمة ما يقارب مليار دولار مساعدات عسكرية.
وكذلك دعمت هولندا أوكرانيا بـ 200 صاروخ ستينغر ومعدات عسكرية.
وهناك اتفاق أوروبي جماعي بإرسال دعم عسكري ومالي لكييف.
وذلك لتطوير الصمود والمقاومة بما يشكل تغييراً على مسرح العمليات على الأرض الأوكرانية.
ويديم الحرب على روسيا تمهيداً لظهور تأثيرات العقوبات الاقتصادية تدريجياً، وتتجذر الخسائر الأكبر في الجانب الروسي عسكرياً ومادياً ولتحدث الضغوط الداخلية والشعبية في روسيا للخروج من هذا المأزق.
فتطوير المقاومة الأوكرانية ستكون إستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
لا شك أن إنهاك روسيا في هذه الحرب سيؤدي إلى الانشغال بمواجهة الأطلسي وحلفائه مما يمنع روسيا من الالتفات للصين ودعمها لو نشب صراع في بحر الصين بينها وبين الولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما سعت له إدارة بايدن وهو عزل روسيا عن الصين إما بالمفاوضات والتفاهمات أو بإستراتيجية الحرب المستعارة وإدارتها من الخلف.
ألمانيا تتجه لتصبح قطباً دولياً نتيجة للحرب الجديدة في أوكرانيا:
في إعلان تاريخي قررت ألمانيا على لسان مستشارها (أولاف شولتز) إعادة بناء جيشها وتجهيزه كقوة ردع، وخصصت 100 مليار يورو، وهي نتيجة مبكرة للحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وهو تطور كبير وجديد منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد توصلت ألمانيا مؤخراً إلى أن استمرارها تحت مظلة الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا سيجعلها رهينة لهما، لذا كان القرار إعادة تشكيل قوتها الخاصة، للردع وتطوير الجيش الألماني ليكون قوياً بحيث يعزز المكانة السياسية والاقتصادية الألمانية، وربما يجعلها قطباً دولياً متوقعاً مع المتغيرات الجديدة.
روسيا وسيناريو الحرب:
لكنه من جهة أخرى، فإن روسيا تقوم وفق هذا السيناريو بحصد مكاسب قد خططت لها إستراتيجياً، وهذه أهم المكاسب التي تتوقع روسيا أن تحققها من هذه الحرب:
أولاً: إسقاط نموذج أوكرانيا كدولة حاضنة للسلاح النووي الأطلسي واستبعاده كمهدد للأمن القومي الروسي، وهو هدف عالي المستوى إستراتيجياً ومقدم على كل الأهداف لجعل روسيا قوية ومؤثرة في قرارها العالمي المنافس.
ثانياً: توسيع محيط حيوي جديد لروسيا باعتبارها قوة جيوبوليتيكية نامية ومزدهرة بضم شبه جزيرة القرم وجنوب شرق أوكرانيا وبالاعتراف بسيادة جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية، وبالتالي فإن الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية ستنعكس على روسيا، حيث مصانع الحديد وإنتاج الحبوب متركزه في هذه المناطق وهى سلع حيوية للعالم.
ثالثاً: تغيير النظام السياسي لأوكرانيا بالمفاوضات باستثمار سيناريو الحرب وإرغام الرئيس الأوكراني بالتخلي عن منصبه وإسقاط حليف الغرب وإيجاد قيادة سياسية وعسكرية جديدة موالية لروسيا، وتتخذ مواقف محايدة مع الأطلسي وربما في المستقبل تقوم بتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع روسيا، وعندها يمكن لروسيا أن تنصب أسلحتها الإستراتيجية بدلاً من الأطلسي.
رابعاً: يشكل الانتصار والفوز في الحرب لروسيا عاملاً ضاغطاً على الدول الأوروبية الشرقية المحيطة بأوكرانيا للتفاهم مع روسيا بألا تكون عاملاً مهدداً لروسيا خصوصاً إذا ما اختلف الأوروبيون حول مفهوم الأمن الإستراتيجي وتأثير العقوبات الاقتصادية المرتدة على الاقتصاد الغربي.
خامساً: سيضع فوز روسيا في أوكرانيا رمزاً ملهماً عالمياً أمام الأقطاب الجديدة (الصين والهند وإندونيسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا.. وغيرها)، والدول المتضررة من سياسات الولايات المتحدة والغرب، إلى الالتحاق بالمنظومات الجديدة التي ربما تنشأ بعد الحرب الروسية – الأوكرانية لتضع ملمحاً جديداً ليشكل نظاماً عالمياً جديداً تحلم به الكثير من الدول المتضررة من سيادة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على مؤسسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية.
سادساً: سيجسد الفوز في أوكرانيا نظرية بوتين في روسيا العظمى وسيكون بوتين رئيساً شعبياً حقق للروس المكانة العالمية التي فقدها الاتحاد السوفييتي بعد عام 1991م.
سابعاً: لا شك أن روسيا قبل الدخول في الحرب درست نتائج المقاطعة الاقتصادية واتخذت إجراءات لتقليل الآثار الاقتصادية للعقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية والدولية.
حيث تعتبر روسيا مصدراً لأهم سلعتين في العالم الغاز والنفط من جهة، والقمح الروسي، وهي أهم حاجات العالم (الطاقة والغذاء)، وبالتالي فإنه يمكن الاستعاضة عبر نظام المقايضة دون “السويفت”، وتستطيع روسيا أن تستفيد من ارتفاع أسعار النفط والغاز والقمح في إيراداتها لمعالجة آثار هذه العقوبات.
وقد اعتمدت روسيا أيضاً بديلاً عن “السويفت” الأوروبي “نظام الدفع الدولي عبر الحدود” (Cips) الذي بدأ عام 2015 كبديل، ولديه الآن 1186 مؤسسة مالية في 100 دولة مسجلة، ويمكن أن تستخدم روسيا العملة الصينية كبديل عن الدولار، كما أن روسيا عندها نظام مكافئ لـ”السويفت” اسمه نظام تمويل الرسائل المالية، وإن كان صغيراً في حجمه.
وربما تتجه روسيا لتطوير التعامل بنظام الروبل الرقمي كنظام للمدفوعات خصوصاً للتبادل التجاري فيما بينها وبين الصين فهو معتمد عند الصين.
وأيضاً ربما تتجه روسيا إلى عمليات سيبرانية لإتلاف النظام المالي الغربي وربما سرقة الأموال من البنوك الأوروبية.
كما قد تسعى روسيا لتأميم الممتلكات والأموال الأوروبية الموجودة في روسيا واعتبارها مقايضة للودائع الروسية التي في البنوك الأوروبية.
وطبعاً هذا لا يعني أن روسيا لن تتأثر من العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، ولكن ستقلل من تأثيراتها وتعتمد على تحسين الموقف الإستراتيجي للحرب.
الولايات المتحدة وأوروبا وارتدادات العقوبات الاقتصادية:
لا شك أن العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية ستكون مؤثرة على الاقتصاد الروسي، ولكن بالمقابل أيضاً ستكون هناك ارتدادات لهذه العقوبات أيضاً على أوروبا والولايات المتحدة.
فحجم التبادل التجاري بين روسيا والاتحاد الأوروبي يقارب 300 مليار يورو (2018) وانخفض بسبب أزمة كورونا بنسبة 21%.
وهذا يؤثر على كل الأطراف إذا ما طبقت العقوبات وتتضرر فيه شركات أوروبية عدا أن تأميم الممتلكات الأوروبية في روسيا، ستؤثر بشكل كبير على قطاعات وشركات أوروبية.
وتستورد أوروبا 35% من احتياجاتها من الغاز الروسي، ومع الحرب ارتفعت أسعار النفط والغاز وتأثرت خطط والإمداد كخط “يا مال_ أوروبا”، و”نورد ستريم 1″، وخط “ترك ستريم”، فإن الأوروبيين والأمريكيين طلبوا من قطر واليابان توفير شحنات إضافية من الغاز، لكن لا تستطيع هاتان الدولتان توفير الكفاية العالمية.
ستتجه بالطبع أوروبا لإيجاد مصادر بديلة وتوسيع مشاريع الطاقة المتجددة والفحم وخيارات أخرى لتعويض نقص الغاز.
بالطبع سيؤثر ذلك على القدرة الإنتاجية للدول الأوروبية نسبياً، كما سيؤثر بالطبع على معدلات التضخم لأسعار الوقود والسلع المرتبطة به.
المنطقة العربية وتأثيرات الحرب الروسية – الأوكرانية:
ما يهمنا كثيراً هو ما مدى تأثير الحرب على الدول والمجتمعات العربية في المنظور القريب.
إن أهم تأثيرات هذه الحرب هي التأثيرات الاقتصادية، وانقطاع سلاسل الغذاء بالدرجة الأولى، إن أهم سلع الحياة (الطاقة والغذاء) وهم النفط والغاز والقمح ستقل إمداداتها وترتفع اسعارها وستتأخر توريدها.
وستؤثر بشكل مباشر على الكثير من الدول العربية، فالدول العربية ذات مستويين، المنتجة للطاقة والمستهلكة لها، والمستوردة للقمح والمنتجة له.
فدول كمصر تعتبر الأكثر دولة استيراداً للقمح الروسي والأوكراني 50%، سيتأثر من هذا الانقطاع، وهي لن تستطيع شراء القمح بالسعر الجديد، حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا المصدرين الأكبر للقمح وتعتبر روسيا المصدر العالمي الأول للغاز. كما أن اليمن يعتبر أكبر دولة سيهددها انقطاع سلاسل الغذاء وخصوصاً القمح في ضوء المحنة والحرب القائمة حالياً، فهو يحصل على نصف المتطلبات من الحبوب من أوكرانيا.
وتعد سورية المحمية الروسية ملزمة بشراء القمح الروسي لحاجتها.
ومع تراجع الاحتياطيات النقدية للسودان، فهو مهدد أيضاً، وتأتي الجزائر كثاني مستهلك للقمح في أفريقيا، وستستفيد الولايات المتحدة من بيع قمحها بأسعار جديدة.
أما الدول المنتجة للطاقة، فإنها ستستفيد من ارتفاع الأسعار وتستطيع التغلب على ارتفاع الأسعار لكنها ستتعرض للضغوط الروسية والأوروبية والأمريكية من أجل توفير الكميات اللازمة لتغطية عجز موارد الطاقة (النفط والغاز)، وهذا سيجعلها تدفع كلفاً عالية من الالتزام (قطر اعتذرت عن قدرتها الكافية، والسعودية رفضت رفع إنتاج النفط بضغط أمريكي).
سنة التدافع:
إن سنة التدافع بين القوى العظمى هي سنة كونية، قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251).
وهي سنة لإعادة الاتزان بين البشرية حتى لا يعم الفساد في الأرض ويخرب العمران وتفسد الحياة، لكن من المهم أن تستغل دول شعوب المنطقة العربية فرصة التدافع لاستثمارها في صيانة عمرانها ولتقليل مخاطر وآثار الحروب ودمارها على البشرية.
فهي فرصة لو أحسنت استغلالها نظم سياسية عربية وشعوب ونخب ومؤسسات في تفعيل تضامن لمعالجة حالة الكارثة الغذائية المتوقعة في مناطق الصراع في المنطقة العربية والمناطق الفقيرة، وتأسيس صندوق إغاثي خليجي لهذا الغرض وإعانة الدول الضعيفة، واستثمار هذا المال في سلة استثمار غذائية في بلدان زراعية كالسودان ومصر واليمن والصومال وغيرها، ولسد ثغرة انقطاع السلاسل الغذائية المتوقعة.
فبالرغم من مرور 6 أيام من الحرب وبروز التدافع الغربي مع روسيا، فإنه لم يجتمع العرب بمؤسساتهم السياسية أو الاقتصادية لمناقشة تأثيرات هذه الحرب على شعوبهم ومستقبلهم.
كما أن بوادر تشكل اتجاه عالمي نحو محاور جديدة من الأقطاب الإقليمية والدولية وملامح لتغيير في هيكل النظام العالمي وتوازن القوة فيه باتت واضحة للعيان، وهذا لا يعني أن قوتي الولايات المتحدة وأوروبا تتجهان إلى الضعف بقدر ما هو إعادة توازن القوة في النظام الدولي الجديد، فأين موقع العرب من هذا التدافع.
إن خلاصة ما يجب أن ينتبه له الناس والحكومات في هذه المنطقة العربية والإسلامية هو تأمين موقعهم السياسي والاقتصادي والأمني على ضوء المستجدات الجديدة وتأمين الامن والحياة الكريمة من دون جوع، قال تعالى جل في علاه: (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن “الجزيرة نت”.