هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو في أصله مقدمة لكتاب التاريخ الذي كتبه ابن خلدون، والمعنون بـكتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، ثم فصلت المقدمة لتصبح كتاباً مستقلاً يعد أول كتاب في علم الاجتماع أو علم العمران، وللمقدمة نسخ كثيرة محققة وغير محققة، سنرِد على ذكرها، وقراءتنا ستكون بإذن الله من النسخة التي حققها الأخ الجليل العلامة أ. إبراهيم شبوح(1)، حقق أ. شبوح كتاب التاريخ كله «العبر في خبر من غبر» في اثني عشر جزءاً، عمل في التحقيق على نسخ خطية كثيرة بعضها بخط ابن خلدون نفسه، والمقدمة على وجه الخصوص محققة بخط ابن خلدون، وتعد هي النسخة الأصح والأدق المبنية على مخطوط ابن خلدون نفسه، بل على عدة إبرازات لها.
تعريف بابن خلدون:
قبل أن نبدأ الحديث عن المقدمة، ينبغي أن نعرف من هو ابن خلدون.
هو ولي الدين عبدالرحمن بن محمد، ثم يذكر نسبه عدداً من آبائه إلى أن يصل إلى إبراهيم بن عبدالرحمن بن خلدون، ولد في تونس في غرة رمضان 732هـ/ 27 مايو 1332م، من أسرة أندلسية نزحت من الأندلس إلى تونس في أواسط القرن السابع الهجري بسبب المشكلات التي بدأت تظهر في الأندلس في ذلك الوقت، وأصله يرجع إلى حضرموت (من أهل اليمن الحضارمة)، نسأل الله تعالى النجاة لليمنيين ولغيرهم من خلقه مما هم فيه من المحن والفتن الكثيرة.
وابن خلدون حريص في كل موضع يذكر فيه نفسه على ذكر النسب الحضرمي لتأكيد نسبته العربية الخالصة، وهو من أسرة لها رياسة في بيوت الأندلس، وجده الأكبر «خالد» المعروف بخلدون كان من جند المسلمين اليمنية الذين دخلوا الأندلس مع الفتح العربي مع طارق بن زياد، وهؤلاء كانت بيوتهم بيوت شرف واحترام باعتبار أنهم الذين أتوا بالإسلام في هذه المنطقة من العالم.
ابن خلدون حريص في كل موضع يذكر فيه نفسه على ذكر النسب الحضرمي لتأكيد نسبته العربية الخالصة
عاش ابن خلدون في بلاد المغرب؛ تونس والجزائر والمغرب، وعاش أهله في الأندلس ثم انتقل إلى مصر عاش فيها نحو ربع قرن، وبقي فيها إلى أن توفي في القرن التاسع الهجري عام 808هــ، ودفن في القاهرة.
علا به الزمن وهبط وتقلد أسمى المناصب، منها ناظر خانقاوات(2) الصوفية ولا سيما خانقاه الظاهر بيبرس، درس الفقه المالكي والحديث، وتولى منصب قاضي قضاة المالكية عدة مرات، وحياة ابن خلدون كلها ولاية مناصب وعزل منها، فإذا ما بلغ السلطان أو الأمير أو صاحب القرار ما يسوؤه منه يعزله، أو إذا ما تكلم في السياسة كلاماً لا يعجب الأمراء والسلاطين، وهو أمر حادث في كل وقت، إذا ما تكلم أحد بما يزعج السلاطين أو لا يعجبهم؛ فمصيره إلى العزل.
لكن يُشهَد لملوك تلك المرحلة الزمنية وأمرائها أنهم كانوا إذا ما عزلوه أكرموه فلم يسئ إليه أحد، ولم يصادر ماله أحد، ولم يهنه أحد، بل إنه في بعض المرات التي عُزل فيها ظل جليس السلطان، ينصحه ويوجهه ويُسأل في الفتاوى فيفتي.
وكان أهم منصب تولاه في القاهرة بعد القضاء هو منصب التدريس في مدرسة «صُرغتمش»(3)، يقول عن نفسه في ترجمته لما تولى كرسي الحديث في المدرسة الصرغتمشية درس فيها موطأ ابن مالك وترجم لمالك ولشيوخ مالك وتلامذته قال: «وانفض هذا المجلس وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيون، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب، وأخلص النجيَّ في ذلك الخاصة والجمهور».
ومما يذكر أن ابن خلدون حج في مدة بقائه في مصر، وإن كان دخل مصر أول دخوله بنية الحج، ويقول مؤرخوه: إن هذه النية كانت في ظاهر لسانه فقط، أما الحقيقة فإنه كان فاراً من المغرب نتيجة اضطهاد الملوك والسلاطين له، فلكي يخرج دون أن يُتابع قال: إنه يريد الحج.
ولما نزل الإسكندرية شمال العاصمة القاهرة في عام 784هـ لم يلبث فيها إلا قليلاً، وانتقل إلى القاهرة وبقي فيها، وتلقاه الكبراء والعظماء، لأن سمعته كانت سابقة له إلى أهل العلم في الديار المصرية.
ابن خلدون ليس من نوادر الإسلام ولا العرب فحسب بل من نوادر الدنيا كلها
ترجمته لنفسه:
ترجم ابن خلدون لنفسه في كتابه «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا(4)، بدأه من ميلاده إلى سنة وفاته، يدون الأحداث المهمة ويكتب الرسائل التي وصلت إليه من الأدباء والفقهاء أو رسائل لا تخصه، لكن فيها معلومات لغوية أو أدبية أو فقهية مهمة كل هذا موجود في تلك الترجمة.
ومما يحسب لهذه الترجمة أنها الوحيدة بمثل هذه السعة لأحد من جيله أو من نظرائه في العلم، فقد جمع فيها معلومات عن الآخرين، فالترجمة ليست لنفسه فقط، وإنما هي ترجمة لعدد لا أحصيه من العلماء والقضاة، والملوك والأمراء والقواد، والصالحين والطالحين، كل هذا موجود فيما سماه هو نفسه «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً».
إن المقدمة التي سنحاول، إن شاء الله تعالى، أن نقرأها مليئة بعلوم كثيرة، لا تتعلق بعلم الاجتماع فقط، فهي كما نرى مقدمة في علوم الدنيا، كل علم في الدنيا له طرف منها وله تأسيس فيها.
فعندما نقرأ مقدمة ابن خلدون، ومصنفاته الأخرى، نقتنع اقتناعاً لا يكاد يزعزعه شيء بأن ابن خلدون ليس من نوادر الإسلام ولا من نوادر العرب، ولا من نوادر علماء التاريخ الإسلامي، ولا من نوادر علم الاجتماع الذي هو مُنشئه الأول فحسب، إنما ابن خلدون من نوادر الدنيا كلها.
________________________________________________
(1) ابن خلدون من مواليد القيروان، تونس، تدرج في الوظائف العلمية والثقافية الرفيعة في تونس وسورية والأردن وغيرها.
(2) الخانقاه مبنى كبير فيه عدد من الغرف يقيم فيه الصوفية.
(3) أنشأها الأمير سيف الدين صُرغتمش الناصري، وهي قائمة إلى اليوم، بجوار جامع أحمد بن طولون.
(4) طبع عدة طبعات أحسنها طبعة العلامة محمد تاويت الطنجي، نسبة إلى طنجة.