هناك علاقة واضحة بين الاستعمار والاستشراق، حيث دفعت القوى الاستعمارية مجموعة كبيرة من العلماء والباحثين بهدف دراسة الشرق، واكتشاف جوانب القوة والضعف فيه.
ولقد استفاد الغرب من هزائم الحملات الصليبية، لذلك استخدم المستشرقين ليكتشفوا إمكانيات إضعاف المسلمين، وزيادة الفرقة والخلافات بينهم، وتقليل ثقتهم في أنفسهم بهدف فرض السيطرة عليهم.
ونتيجة لارتباط المستشرقين بالقوى الاستعمارية التي امتلكت القوة الصلبة، فقد تعاملوا مع التاريخ الإسلامي بقدر كبير من الاستعلاء والاستكبار، وقاموا بانتقاء ما يبرر هيمنة أوروبا على الشرق المتخلف الفقير، أو ما يؤكد النظرية التي قام عليها الاستعمار، وهي العبء التاريخي، أو رسالة الرجل الأبيض في تمدين البشرية.
لذلك ركز المستشرقون على الجوانب السلبية السيئة في التاريخ الإسلامي ليشكلوا بها صورة نمطية للمسلمين، وتجاهلوا الإنجازات الحضارية الإسلامية، ودور المسلمين في نشر المعرفة وبناء المدنية وتطوير العلوم.
كما ركز المستشرقون على الجوانب المادية انطلاقاً من المنظور الغربي، وتجاهلوا الجوانب الروحية والمعنوية التي تميز الحضارة الإسلامية، وتشكل أساس قوتها.
أسلوب غربي للهيمنة!
يري إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” أن الاستشراق هو المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق بمعنى التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه ووصفه، وتدريسه للطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسيطرة عليه، فهو أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه.
يضيف سعيد: إن الثقافة الأوربية زادت قوتها ودعمت هويتها من خلال وضعها لذاتها في مقابل الشرق باعتبارها ذاتاً بديلة.
لذلك، فإننا لا بد أن نعيد قراءة ما كتبه المستشرقون في ضوء علاقات القوة، والارتباط بالاستعمار، والعمل على زيادة قوة الغرب في مقابل إضعاف الشرق بهدف الهيمنة والسيطرة عليه.
لقد كان الاستشراق –طبقاً لتوصيف سعيد– مشروعاً ثقافياً بريطانياً فرنسياً، لذلك فإن القيمة الكبرى للاستشراق تكمن في كونه دليلاً على السيطرة الأوربية الأمريكية على الشرق أكثر من كونه خطاباً صادقاً حول الشرق.
ولقد أنتج الاستشراق صورة نمطية سلبية للعرب ما زالت تتكرر في الصحافة ووسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية، فالعرب يركبون الجمال، وإرهابيون، أنوفهم معقوفة، فاسدون، ومرتشون، وأن ثرواتهم التي لا يستحقونها إهانة للحضارة الحقيقية، وأن من حق الغربي أن يمتلك هذه الثروة لأنه إنسان حقيقي، وأن الغربي يتمتع بمميزات إنسانية تمنحه الحق في إدارة العالم غير الأبيض، وامتلاكه لمجرد كون ذلك العالم لا ينتمي للإنسانية مثل البيض.
هكذا قام الاستشراق ببناء صورة الغربي الأبيض لتغذي شعوره بالاستعلاء والاستكبار، وأن من حقه أن يمتلك العالم، ويقوم بإدارته لأنه الإنسان الحقيقي.
وذلك في مقابل صورة نمطية سلبية للعربي تبرر للغربي أن يسيطر عليه، وأن يتعامل معه باحتقار.
ولكن أين العلم؟
يقدر سعيد عدد الكتب التي أنتجها المستشرقون بين عامي 1800 و1950 بـ60 ألف كتاب؛ وهذا يعني أن الاستشراق جهاز ثقافي ينحصر دوره في العدوان وإصدار الأحكام، وفرض المعرفة، وأن عدداً لا يحصي من المستشرقين كتبوا عن الشرق من موقف الاستعلاء، وكان هؤلاء المستشرقون يتلقون دعماً وقوة من عدد كبير من المؤسسات والهيئات.
الإسلام في مرآة الغرب
يستشهد سعيد بكتاب جاك فاردنبرج “الإسلام في مرآة الغرب” ليوضح موقف الغرب من الإسلام، حيث درس فاردنبرج أعمال خمسة من المستشرقين المهمين باعتبار أنهم صنعوا صورة عدائية للإسلام.
وقد أوضح فاردنبرج الأهداف السياسية للاستشراق، وأن رؤية المستشرقين للإسلام كان لها تأثير كبير على الدوائر الحكومية في العالم الغربي.
وهذا يوضح أن ادعاء المستشرقين أنهم يلتزمون باستخدام المناهج العلمية هو ادعاء زائف، فلقد كانوا يعملون لتبرير الاستعمار عن طريق نفي صفة الإنسانية عن الشعوب في أفريقيا وآسيا، ويمجدون العنصرية البيضاء
تعبير عن شبكة المصالح
يقول سعيد: لا شك في وجود منظومة راسخة لدراسات الشرق الأوسط تمثل مجمع مصالح المنتفعين وشبكات من المهنيين والخبراء الذين يعملون لدراسة المنطقة لرسم إستراتيجيات السيطرة عليها.
ولذلك أصبح العالم الأكاديمي في الغرب تتحكم فيه الشركات التجارية، والإرساليات التبشيرية، والعسكريون ووزارة الخارجية وأجهزة المخابرات.
وفي إطار هذه المنظومة يتم توزيع المنح والجوائز على الباحثين ومراكز البحوث والكليات الجامعية، بهدف الترويج لمجموعة من الأفكار عن الإسلام والشرق والعرب، وفرض هذه الأفكار.
وهكذا رفعت الولايات المتحدة لافتة دراسات الشرق الأوسط بدلاً من الاستشراق، لكن الحقيقة أنها حافظت على وظيفة المستشرقين الأساسية، وهي تمجيد العنصرية البيضاء، وتبرير سيطرتها على العرب والمسلمين.
ولقد أصبح نشاط دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة مركباً من عدة عناصر، إذ يضم النمط القديم من المستشرقين، وراسمي السياسات، وسماسرة السلطة الأكاديمية، وعلى أي حال فإن جوهر العقيدة الاستشراقية الجامدة لا يزال قائماً.
الاستشراق ساهم في بناء النخبة العربية
يقول سعيد: إن التيارات البارزة للثقافة المعاصرة في الشرق الأدنى تسترشد بالنماذج الأوروبية والأمريكية، وعندما قال طه حسين عن الثقافة العربية الحديثة عام 1936: إنها أوروبية لا شرقية كان يسجل هوية الصفوة أو النخبة المصرية المثقفة التي كان هو من أفرادها البارزين، ويصدق ذلك على النخبة الثقافية العربية اليوم.
يضيف سعيد أن الطلاب والأساتذة الشرقيين لا يزالون يريدون أن يأتوا ليتعلموا من المستشرقين الأمريكيين، حتى يعودوا ليكرروا على مستمعيهم المحليين نفس القوالب الفكرية واللفظية التي وصفتها بأنها عقائد استشراقية جامدة.
ونحن يمكن أن نقدم الكثير من الأدلة على صحة النتائج التي توصل لها سعيد، فالكثير من الباحثين العرب ينقلون من كتابات المستشرقين، ويستخدمون مصطلحاتهم دون نقد أو تمحيص، وبذلك فرضوا على الأمة التفكير داخل ما يصفه سعيد بـ”العقائد الاستشراقية الجامدة”.
وهؤلاء يحصلون على الجوائز من الغرب ومن وزارات الثقافة العربية، ويتم إضفاء الألقاب عليهم مثل التنويريين والمفكرين؛ لأنهم يقومون بخدمة أهداف الغرب في تشويه الإسلام، وتبرير سيطرة الغرب على الدول الإسلامية.
هذا يعني أن دور المستشرقين لم يقتصر على بناء الإستراتيجيات الاستعمارية الغربية، وتشكيل عقدة التفوق عند الغربيين، ولكنه أثر على الثقافة العربية الحديثة التي أصبحت تشكل عقدة الدونية والشعور بالهزيمة النفسية والثقافية وتضليل الشعوب وتزييف وعيها.
في ضوء ذلك، فإن الأمة الإسلامية تحتاج إلى إعداد علماء يقومون بقراءة التاريخ الإسلامي لتحويله إلى ثروة ثقافية تساهم في نهضة الأمة، لكن هؤلاء العلماء يجب أن يحرروا أنفسهم من السلطة العالمية للاستشراق، وأن يتعلموا كيف يتحدون هذه السلطة بمناهج علمية جديدة، وبرؤية حضارية إسلامية.
إن تحرير الأمة الإسلامية من التأثير الثقافي للمستشرقين مقدمة ضرورية لتحقيق نهضة الأمة، وبناء ثقافة الثقة بالذات والوعي بالوظيفة الحضارية للأمة.
كما أن الأمة تحتاج إلى باحثين يقومون بنقد الاستشراق، ويوضحون للأمة وللعالم عملية التدليس والتزييف والخرافات التي روجها المستشرقون بهدف تبرير السيطرة الغربية، وتبرير جرائم الإبادة التي ارتكبها الاستعمار الغربي ضد الشعوب في آسيا وأفريقيا.
كما أن بناء القوة المعرفية للأمة الإسلامية يحتاج إلى التحرر من السيطرة الأمريكية التي أصبحت تستخدم لافتة الدراسات الشرق أوسطية كبديل لمصطلح الاستشراق، بينما تقوم بالوظيفة نفسها.
يرتبط ذلك أيضاً بقيام الجامعات العربية بدورها في دراسة التاريخ الإسلامي، دون مبالغة في التركيز على الجوانب السلبية وتجاهل الصورة المضيئة والمشرقة والإنجازات الحضارية العظيمة ومقاومة الاستعمار والكفاح من أجل التحرر وتحقيق الاستقلال.
وهذا الجيل الجديد من العلماء والباحثين يجب أن يمتلكوا الثقة في ذاتهم، ويتحرروا من عقدة الدونية التي عمل المستشرقون على غرسها في نفوس النخبة المتغربة التي تسعي لإرضاء الغرب لتحصل على الشهرة والجوائز.
إن التحرر من سلطة الاستشراق يفتح لنا آفاقاً جديدة لقراءة تاريخنا، واستخدامه في بناء مستقبلنا.