للإعلام فنونه الكثيرة، ووسائله العديدة، ونظريات متنوعة تعمل من أجل إقناع المقابل بما تريد وتشاء ما استطاعت، أو تعمل على انتزاع المقابل من شخصيته، ومن ثم عدم التفاته أو عدم الرجوع إلى ثقافته وتاريخه وتراثه، بل وحتى دينه وعقيدته، بحيث تكون مرجعيته الخيارات المحدودة والمؤطرة التي يعرضها عليه صاحب الفكرة الذي قيده، وفي الوقت نفسه يعطيه الإيحاء أنه حر وهو المقيد بكل معنى الكلمة دون أن يشعر.
هناك ألوان ووسائل ونظريات كثيرة في علوم وفنون الإعلام ووسائلها، فمنها مثلاً الحيل الإعلامية، والإشاعة، والتوثيق، والغرس الثقافي.. وغيرها، وهناك التأطير الإعلامي، وهو من علوم الإعلام الخطيرة، ومن غير مبالغة أقولها: نحن نعيش ونعايش الناس كأفراد وجماعات وكتل نتائج هذا التأطير الإعلامي الذي بدأ العمل فيه خصوم الأمة منذ فترة ليس بالقصيرة، وها نحن بدأنا حقيقة نعايش نتائجه هذه، حيث أصَّل لنا التأطير ثقافة جديدة في الشارع المسلم، وأهمها اختراق المصدات الثقافية العفوية التي بالأصل يستند إليها الإنسان المسلم لمواجهة الغزو الفكري والثقافي، الإعلام غيَّرها من خلال فنية التأطير الإعلامي، غيَّرها بفنية وحرفية عالية ودقيقة ومدروسة عميقة وبعلمية.
وهنا تتساءل: ما المعنيّ بالتأطير؟
ببساطة وبممارسة يومية أوضح ذلك.
التأطير يعني وضع الأمر المطروح في إطار معين ومحدود الخيارات، وإيهام المتلقي أنه حر وهو المقيد بكل معنى الكلمة، ومن المستحيل أو من الصعب جداً أن يحيد المتلقي عن الأمر المطروح، وذلك مع عدم شعوره بالتضييق على حريته.
ولأبسّط الأمر: في ضيافتنا اليومية مثلاً وببساطة جداً، حينما يأتي الضيف فتقول له: “شاي أم قهوة؟”، أنت أطَّرته وحدَّدت حريته، وفي الوقت نفسه تقول له: أنت حر، ولكن بالذي أنت تريده وتحدده لا بالذي هو يريد بحريته المطلقة، عكس مثلاً حينما تقول للضيف: “حاراً تشرب أم بارداً، حلواً أم مالحاً؟”، أو بقولك له: “آمر، كل شيء متوافر؛ شراباً وأكلاً”.
التأطير الإعلامي له تأثيره الخارق على المتلقي؛ حيث يتشرب المتلقي الرسالة المفروضة عليه وكأنها اختيار بحرية، وهو يتشربها ظاهراً ومضموناً وما بين سطورها، ومن ثم رسم الصورة الذهنية في المقابل حسب ما يريد صاحب الطرح والفكرة، إلا أنه يخادع بشكل أو بآخر المقابل ويمارس عليه الفرض دون الشعور بذلك؛ أي الدكتاتورية الضمنية، إذا جاز التعبير.
“نظرية التأطير” من أخطر النظريات الإعلامية من حيث تأثيرها في المقابل برضاه، وقبول المقابل التوجيه والانقياد فكراً وفكرة وأيديولوجيا، وذلك لفنية الطرح وعدم شعور المقابل بضيق الخيارات والتسليم فيما هو مطروح والأخذ به لا بغيره، وفي الوقت نفسه يشعر المقابل أنه حر واختار ذلك بحرية كاملة وهو المكبَّل!
التأطير أن يفهم المتلقي ما يتلقاه حسب أجندة ما يطلبه منه ضمناً صاحب الفكرة للوصول بالمتلقي إلى ما يهوى ويريده صاحب الفكرة والرأي المطروح.
اليوم، نجد إعلام الخصوم والعدو يعمل في هذه النظرية الخطيرة بأسلوب علمي من أجل اكتمال جريمته التي يسعى لتأصيلها في ثقافة الأجيال أو بالأحرى أجيال الأمة الإسلامية بشكل الخصوص.
“التأطير الإعلامي” عملية استباقية تحتاج النفس الطويل عملياً لرسم الممارسة أو الصورة الذهنية في المقابل لتستقبلها الأجيال القادمة في حدود حرية ضيقة جداً، ولا يتم الاختيار إلا مما هو مطروح فقط بشكل أو بآخر من قبل صاحب الموضوع أو الفكرة، وذلك لتأصيل الأيديولوجية التي يريدها من يلقيها على المتلقي، وهذه النظرية خطيرة نتائجها مع مرور الزمن، وتصنع أجيالاً تصنعهم الأيديولوجيات التي أطرت الطرح من خلال كسر وتحييد وتسفيه بشكل أو بآخر ثقافة وتاريخ وتراث الأمة في الأجيال، لتحطيم مصدات المقاومة الفكرية والثقافية كما نعيش اليوم الكثير من ومع هذا الأمر.
سأتطرق في المقالات القادمة، إن شاء الله، للنتائج التي نعايشها التي صنعها الإعلام والتأطير بشكل أو بآخر، وستكون المواضيع حول فرعون وعلماء الضلالة وعدم النظر إلى من هو أفضل عيشة وعافية، وتأكيد النظر إلى من هو دون باسم الورع، والحمد والشكر على النعمة وكتم الطموح، وأيضاً للأعراب ومفهوم معنى الأعراب!