بعد 5 أسابيع على بدء الحرب، لا تزال مدينة ماريوبول في جنوب شرق أوكرانيا مرئية بالكاد تحت الدخان والنيران وأطلال المباني المدمرة التي تعرضت ولا تزال للقصف الروسي. ورغم الكارثة الإنسانية، ظلت المدينة الاستراتيجية صامدة أمام سياسة “الأرض المحروقة” الروسية، ولا يزال أهلها يرفضون الخضوع. فكيف أصبحت مدينة ماريوبول أكبر اختبار لقدرات الجيش الروسي، وإلى متى يمكنها الصمود؟
هل فشلت روسيا في اختبار ماريوبول الأوكرانية؟
بحسب تقديرات البنتاغون، ترى الولايات المتحدة أن “الروس يقاتلون بشكل يائس” في ماريوبول من أجل إنشاء ممر على الجانب الشرقي من أوكرانيا لربط الجنوب بالمناطق الانفصالية الروسية في منطقة دونباس. ويقول تقرير للبنتاغون إن الاستراتيجية الروسية تهدف إلى قطع أو تحديد أو عزل القوات الأوكرانية. ومع ذلك، لا يزال الجيش الروسي غير قادر على الاستيلاء على ماريوبول بالكامل رغم الدمار الهائل الذي ألحقه بها.
وقال مسؤول دفاعي كبير في البنتاغون للصحفيين قبل أيام: “لا يزال الروس يقصفون ماريوبول بكثافة بالمدفعية والنيران بعيدة المدى، نحن نواصل مراقبة القوات الروسية داخل المدينة، لكن بالتأكيد ليست غالبيتها هناك، كما نواصل مراقبة الأوكرانيين أيضاً الذين يدافعون بشدة داخل ماريوبول”.
مع ذلك، ستحتاج القوات الروسية إلى استدامة الإمدادات في ماريوبول، مثل الوقود والغذاء والذخيرة، لتنفيذ هذا النوع من الاستراتيجية. لكن جهود موسكو لإعادة إمداد قواتها تتعرض لهجوم أوكراني عنيف، فقد بثت شبكة CNN مؤخراً مقطع فيديو لسفينة حربية روسية مشتعلة قبالة ماريوبول، قيل إنها دمرت بفعل الهجمات الأوكرانية. وقد يكون هذا علامة على جهد أوكراني واضح لاستهداف خطوط الإمداد الروسية، وهو تكتيك يتم استخدامه في جميع أنحاء البلاد.
حرب الكمائن التي تخوضها أوكرانيا تستنزف الجيش الروسي
في السياق، يقول تقرير لمجلة national interest الأمريكية، إن المشكلة بالنسبة لروسيا في ماريوبول هي أن سفن الإمداد والقوافل البرية معرضة تماماً للكمائن الأوكرانية وهجمات الكر والفر المفاجئة، تماماً كالذي حدث مع القافلة الروسية الطويلة شمال كييف، والتي تعرضت لضربات أوكرانية شديدة بطائرات بدون طيار وصواريخ مضادة للدروع وغيرها.
وقد يكون هذا جزءاً من السبب الذي يجعل الروس يواجهون مشكلة في ربط ماريوبول بمنطقة دونباس ومناطق أخرى على طول الساحل الشرقي لأوكرانيا، كما تقول المجلة الأمريكية. وتضيف أن القوافل ضعيفة بطبيعتها، وقد تكون نقطة الضعف هذه جزءاً من سبب لجوء روسيا على ما يبدو إلى القصف بعيد المدى بدلاً على ماريوبول من المواجهة المباشرة مع الأوكرانيين.
ومن خلال معرفة الشوارع والمباني والأحياء والتضاريس، من المحتمل أن يكون الأوكرانيون في وضع يسمح لهم بالدفاع عن مدنهم بميزة واضحة يبدو أنهم يستفيدون منها.
ورغم الدمار الكبير، لا تزال القوات الأوكرانية تلحق خسائر كبيرة بجيش روسيا الأكبر والأفضل تسليحاً، ما أعاق تقدم موسكو على عدة جبهات، وذلك باستخدام توليفة من الأسلحة الدفاعية والتكتيكات العسكرية التي تعتمد على الكر والفر وحرب الكمائن، الأمر الذي ينعكس سلباً على خطط موسكو في أوكرانيا، وكذلك على معنويات جيشها هناك.
لكن لماذا يريد الروس السيطرة على ماريوبول بأي ثمن؟
على مدى شهر تقريباً خضعت مدينة ماريوبول الأوكرانية الساحلية لحصار فرضته عليها القوات الروسية، ويبقى ما بين 100 إلى 200 ألف شخص محاصرين داخل المدينة، التي تتعرض لقصف مستمر بلا هوادة.
تقول السلطات المحلية إن 80% من البنية التحتية الخاصة بالمدينة دُمرت، وبعضها لا يمكن إصلاحه، كانت المدينة بلا مياه ولا كهرباء ولا تدفئة، ومن المستحيل إحصاء أعداد الوفيات، رفضت أوكرانيا هذا الأسبوع إنذار روسيا لاستسلام ماريوبول. ويمكن أن يوجه سقوط ماريوبول صفعةً اقتصاديةً إلى وجه أوكرانيا، وانتصاراً رمزياً لصالح روسيا.
في حديث مع صحيفة The Guardian البريطانية، قال أندريه يانيتسكي، رئيس مركز التميز في الصحافة الاقتصادية في مدرسة كييف للاقتصاد إن “ماريوبول تحمل أهمية عملية ورمزية لروسيا”. وأضاف: “إنها مدينة مرفئية كبيرة، وقاعدة للقوات المسلحة الأوكرانية، ولذلك إذا أراد الروس أن يمتلكوا ممراً برياً [من دونباس] إلى القرم، فإنهم في حاجة إلى السيطرة على المدينة”.
منذ عام 2014، فصلت مسافة أقل من 30 كيلومتراً بين ماريوبول وبين أراضي الانفصاليين التي تسيطر عليها روسيا في دونباس.
وتعد ماريوبول مركزاً معدنياً لصناعة الحديد والصلب، وصناعة الماكينات الثقيلة، وإصلاح السفن، بجانب أن أكبر مصانع الصلب في أوكرانيا، التي تملكها المجموعة المعدنية البارزة في البلاد، Metinvest، تقع في ماريوبول. تعرض أحد هذه المصانع، وهو مصنع Azovstal، لأضرار بالغة من القصف الروسي في الأسبوع الماضي.
قال أندريه يانيتسكي إن الجيش الروسي كان استهدافه لا يقتصر على البنية التحتية المدنية فحسب، بل يمتد إلى البنية التحتية الاقتصادية، بهدف إلحاق أكبر قدرٍ ممكن من الضرر.
كذلك تستضيف ماريوبول أكبر مرفأ تجاري في بحر آزوف، فمن هناك تصدّر أوكرانيا الحبوب والحديد والصلب والآلات الثقيلة. في عام 2021، كانت البلاد الأوروبية وبلاد الشرق الأوسط، مثل إيطاليا ولبنان وتركيا، هي وجهات الوصول الرئيسية للصادرات الأوكرانية التي تخرج من ماريوبول.
وقد عانى المرفأ بعد بداية الحرب في دونباس، بعد أن فقد مرور الشحنات التي تعبر قادمة من الأسواق السابقة، بما فيها روسيا. بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، شيدت موسكو جسراً يربط شبه الجزيرة بالبر الرئيسي لروسيا، وفرضت بصورة أحادية قيوداً على السفن التي تعبر مضيق كيرتش.
ماريوبول تتحول إلى مدينة من الركام والغبار
وفق ما قالته مسؤولة أوكرانية لوكالة فرانس برس، الإثنين 28 مارس/آذار 2022، فقد قُتل 5 آلاف شخص على الأقل في مدينة ماريوبول المحاصرة منذ أن بدأت الحرب الروسية على الأراضي الأوكرانية، في 24 فبراير/شباط 2022.
وأضافت مستشارة الرئاسة الأوكرانية، المكلفة حالياً بملف الممرات الإنسانية، تيتيانا لوماكينا: “دُفن نحو خمسة آلاف شخص، لكن عمليات الدفن توقفت قبل 10 أيام، بسبب القصف المتواصل”. وأضافت أن عدد القتلى الفعلي قد يكون وصل إلى 10 آلاف شخص؛ نظراً إلى تقدير عدد الأشخاص العالقين تحت الركام.
وتعتبر الاحتياجات الإنسانية لأوكرانيا أكثر إلحاحاً في جنوب ماريوبول، حيث قالت السلطات إن نحو 160 ألف مدني ما زالوا محاصرين من قبل القوات الروسية، وفي أمسّ الحاجة إلى الطعام والماء والأدوية.
كما أشارت وزارة الخارجية الأوكرانية إلى أن الوضع في ماريوبول “كارثي”، وأن الهجوم الروسي من البر والبحر والجو، حوّل المدينة التي كان يقطنها 450 ألف شخص “إلى غبار”.
يأتي ذلك في الوقت الذي قالت فيه روسيا إن معظم المرحلة الأولى من عمليتها العسكرية في أوكرانيا اكتمل، وإنها ستركز على “تحرير” منطقة دونباس بشرق أوكرانيا بالكامل.
إذ يشير هذا الإعلان، على ما يبدو، إلى أن روسيا ربما تتحول إلى أهداف محدودة أكثر بعد أن واجهت مقاومة أوكرانية شرسة في الشهر الأول من الحرب.
في حين قالت وزارة الدفاع الروسية إن الانفصاليين المدعومين من روسيا يسيطرون الآن على 93% من منطقة لوغانسك الأوكرانية، و54% من منطقة دونيتسك. وتشكل المنطقتان معاً إقليم دونباس.
في سياق متصل، قال الجيش الروسي إنه لا يستبعد اقتحام المدن الأوكرانية التي حاصرها، وإن روسيا سترد، على الفور، على أي محاولة لإغلاق المجال الجوي فوق أوكرانيا، وهو أمر طلبت كييف من حلف شمال الأطلسي القيام به، ولكن الحلف رفضه؛ خشية حدوث مواجهة مباشرة بين القوات الروسية وقواته.