ولأن السيد “م” دائما يلتفت حواليه، كل نظرة من العابرين الذين يقابلهم في طريقه إنما هي تلصص عليه، يظن أن الجميع يشيرون إليه ومن ثم يعدون عليه خطواته، يحصون كلماته، ثيابه موضع انتقادهم، كلماته تثير سخرياتهم، لون حذائه الباهت ونعله المنكسر، الجميع لاهم لهم إلا السيد “م” وأحواله، هكذا ظن بنفسه الظنون.
لا ينام حتى يتأكد أن الجميع قد ناموا، فلربما حديثهم كان عنه!
حاول أن يتزوج قوبل طلبه بالرفض؛ من يزوج رجلا غامضا مثل السيد “م” حتى أطفال المدارس وطلبة الجامعة بدأوا يلوكون حكاياته، الأمهات حين يرونه تجرين مسرعات؛ كان حديث الليل عنه مرعبا.
السيد “م” يتحاشى أن يلتقي بالناس؛ يذهب لعمله قبل شروق الشمس، فهو يتجنب المتطفلين، أثارت حالته تلك فضول الرجل “السري” لم يكن في الحقيقة مجهولا، فله نظارة سوداء ويرتدي نفس المعطف الأسود صيفا وشتاء، بيديه الصحيفة الصفراء لا يغيرها، أعلم أن تلك أوصافه في السينما المصرية، وهل نحن إلا في ملهاة تتحول تدريجيا إلى مأساة واقعية؟
نفس الوجوه الكالحة التي تتربص بأحلامنا تتجسس على الغد، بعدما سودت الماضي، حتى موضعه من المقهى كما عرف به لا يغيره، يستمع إلى نفس الترددات المتكررة:
“ألفا”،”بيتا” ، يمسك بالقلم ، يكتب بحبر سري، يوهمك أنه يفك “الشفرة“!
السيدات المطلقات لديه خبر عنهن، يتدخل في حالات كثيرة؛ ليصلح بينهن وبين أزواجهن، يأكل من يد من ترجع لزوجها حماما بالفريك، لا يدري لم الحمام بالذات؟
لم لا تكون دجاجة أو حتى سمكا مشويا؟
لبراعته كان الجميع يأخذ بنصيحته، أو قل يمتثلون لتوجيهاته، لصفته ولسطوته، من يخالف عن أمره فهناك دائما زبائن للمخفر ذي السجن الكئيب، ومن ثم تكون حفلة حتى الصباح!
الرجل السري كان مرعبا للرجال محببا إلى النساء، ولأن السيد “م” كان غامضا فقد لفت انتباه الرجل الذي تعتقد به السرية، بدأ يحاول فهم شخصية السيد “م”، تأويلات وافتراضات بدأ يقدمها ويعلل بها سر غموض السيد “م” هل هو لص كبير؟
بل لعله زعيم تنظيم خطير، أو هارب من الأيام!
ولكي يتقن سريته أكثر خلع معطفه وألقى بنظارته السوداء بعيدا، غير من صورته، تأنق في كلامه، برع في لعب دور الحاوي المتخفي، بدل الجريدة الصفراء، أمسك بكتاب ذي غلاف أرجواني، شعر رواد المقهى بأن ثمة تغييرا ظنوا أن الرجل السري قد صار ظاهرا، بدأت النسوة يحذرن في كلامهن، ويراعين أدق التفاصيل، تنفس الرجال الصعداء، تجرأ أحدهم فضرب زوجته على ملأ من الناس، بدأ المأذون يأتي ليطلق الشاردات منهن؛ رحم الله أيام الرجل السري، لم يختف فقط انشغل بالسيد “م” انصرف كلية لرصد أحواله وكتابة تقارير يومية عن غرائبه.
ولأن الهدوء خيم على الحارة؛ الغرباء دبت أقدامهم، كثرت الحكايات وانتشرت الشائعات، في هذه المرة كان السيد “م” محورا لموضوعات شتى !
السيد “م” رجل المهام الصعبة، السلطة وضعت ثقتها فيه، كل من يقابله يبتسم له، يقدم له التحية .
أعجب السيد “م” بذلك التغير الحادث، صدق نفسه، مؤكد أنه رجل مهم، بدأت نساء الحارة يعرضن عليه مشكلاتهن، بؤرة اهتمام رواد المقهى.
حلقات الرغي المسائية تلوك سيرته، تتأنق المذيعات في الحديث معه، يقدم حلولا لكل شيء، غير أن طبيبا ماكرا كشف عن سره.. “رجل بلا خصية”!