د. حلمي محمد القاعود، لا تسعه مقدمة؛ فهو أحد «القامات المهمة في الأدب العربي الحديث، وأحد الرواد الذين أثروا الحياة الأدبية والفكرية»، بحسب وصف اتحاد الكتَّاب المصريين في قرار تتويجه بجائزة «التميز في النقد الأدبي» بمصر، أخيراً؛ فهو قيمة أكاديمية وأدبية كبرى حفرت اسمها بحروف من نور في مضمار الإبداع الأدبي والنقد واللغة، ويعد فارساً بارزاً من فرسان الدفاع عن السمو الأدبي والجمال الفني، وقضايا الأمة العربية والإسلامية.
«المجتمع» حاورته في عدد من القضايا الفنية والأدبية، وتحدثت معه حول حدود الإبداع الأدبي والفني، واستطلعت رأيه في بعض الأزمات ذات الصلة ومستقبل الفن النظيف، وسبل استعادة الإبداع المفقود في مصر والوطن العربي.
الأديب الحق يعكس قضايا المجتمع من خلال نماذج إنسانية حية وفق تصور ناضج وأداء فني متكامل
يقال: «الفن مرآة المجتمع»، هل تتفقون مع هذه المقولة؟
– كل فن فيه أثر من البيئة بصورة ما، حتى لو كان سيريالياً، وقد تنبه نقَّادنا القدماء إلى هذا الأثر، وتحدثوا عنه في كتبهم بصور متفاوتة (ابن سلام الجمحي، على سبيل المثال)، وفي عصرنا الحديث دعا الماركسيون إلى التركيز على قضايا الطبقات الدنيا ومعاناتها في المجتمع وفقاً لنظرية الصراع الاجتماعي أو الحتمية التاريخية، والأدب الجيد هو مرآة للمجتمع، وخيال الكاتب قادر على توظيف ما يراه مفيداً لفنه بصورة فعَّالة تحافظ على السياق الإنساني في تحولاته وتغيراته.
والمهم في المسألة سلامة التصور لدى الفنان أو الأديب، والتصور السليم في واقعنا الفكري المفترض هو التصور الإسلامي، والفنان يعالج القضايا المختلفة وفقاً لهذا التصور، والموهبة قادرة على احتواء كل القضايا من خلال الإيحاء والرمز والتصوير الحي الراقي.
هناك فن موجَّه، تصدر به أوامر من أعلى مثل الأدب الماركسي أو الاشتراكي الذي يطرح من خلال تسمية مهذبة «الواقعية الاجتماعية»، وهذا أدب رديء؛ لأنه يلتزم بنظرية فاسدة تحتفل بالدم والعنف والحقد والخصومة الأبدية، بيد أن الأديب المشبع بالقيم الإنسانية العليا يرى الأمور في وضعها الطبيعي الإنساني، ولهذا نجد مثلاً كتابات «جوجول»، و«تشيكوف»، و«تورجنيف»، و«ديستويفسكي»، و«تولستوي»، ذات حضور عالمي حتى يومنا هذا، لكن ما كتب بعد حكم البلاشفة لا وجود له، ولا حضور؛ لأنه أدب دعاية.
والأمر ينسحب على ما كتبه الشيوعيون العرب، مع كل ما رافق إنتاجهم من ترويج وإشهار بالآلة الإعلامية الضاربة، فقد نسيهم الناس، ولم يعد أحد يذكر منها شيئاً.
الأديب الحق هو الذي يعكس قضايا المجتمع من خلال نماذج إنسانية حية وفق تصور ناضج، وأداء فني متكامل.
لكن الإبداع الأدبي بمصر والوطن العربي، في أحيان كثيرة، يتجاوز حدود القيم والأخلاق، فهل ثنائية الصراع التي يفتعلها البعض تعبر عن ضعف الأديب أم فجاجة الواقع؟
– من المؤكد أن الإبداع الحق أدب خلقي بامتياز، وعملية التجاوز لا تنتج إبداعاً باقياً على مر الزمان، وقد يكون الشاعر أو الراوي موهوباً من الناحية الفنية، لكنه حين يتجاوز لا يبقى منه شيء.
فأبو نواس شاعر موهوب، وله شعر فاحش كثير، لكنه ذهب مع الريح ولم يبقَ منه إلا بعض شعره الإنساني، ومنه قصيدة طلب العفو والمغفرة.
والمتنبي الموهوب شعره باق حتى اليوم، يردده الناس ويدرسونه ويفسرونه، ويجدون فيه متعة متجددة، وبعض المتحذلقين من أدعياء الحداثة يسطون عليه بذكاء، لأنه يقدم نموذجاً متفرداً يجمع سلامة الرؤية وسطوع الموهبة.
والتجاوز دليل دامغ على الإخفاق والفشل الكبير حتى لو كان صاحبه موهوباً، ودعني أقل هنا: إن التجاوز بانتهاك العقيدة والمقدسات، أو الكتابة المكشوفة والإباحية تدخل في إطار التخطيط لسلخ القارئ البسيط عن هويته وقيمه، فضلاً عن تعبيرها عن الخواء الفكري والروحي للمتجاوزين، وللأسف فإن معظمهم لا يملك غير ضحالة الموهبة وخواء القدرة الفنية، وشهوة الشهرة والمكاسب المادية، وهناك من يرفع شعار كسر التابوهات (أي المحظورات الثلاثة: الدين والجنس والسياسة)، لكنه يكسر المحظور الأول والثاني، ولا يستطيع الاقتراب من الثالث؛ لأنه يعلم أن أصحابه قادرون على جعله ينسى نفسه، فيركز على الأول والثاني، لأنهما بغير حماية أو بغير قوة تذود عنهما!
الفن النظيف باقٍ في كل زمان ومكان أما غير النظيف فينتهي عندما يكبر المراهقون
ظهرت أعمال منسوبة للفن في الفترة الأخيرة تروج للشذوذ والزنى بشكل فج وصريح، فهل تستطيع تلك الأعمال تدمير البنية التحتية للأخلاق بمصر والوطن العربي في ظل الضغوط المستمرة؟
– بالتأكيد تدمر بنية المراهقين والبسطاء ومن لا يملكون ثقافة ناضجة؛ فهناك جهات نافذة، وناشرون، ومنتجون تجار غير أمناء، وأدعياء فنّ، ومثقفون مرتزقة وغيرهم، وهؤلاء جميعاً يهمهم أن يحققوا مكاسب معنوية أو مادية أو ثقافية بالكلمة الخبيثة على حساب التدمير والتخريب والهدم.
وفي ظل نفي الدين ومحاربته وانهيار التعليم وانتشار البطالة، وتمدّد الإدمان، ووفرة المخدرات الرخيصة بصورة تفوق أحياناً توفر المواد الغذائية، وقسوة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.. تبدو الكتابة الهابطة والفن المبتذل سلوى لهؤلاء المغيبين المطحونين المستسلمين لأوضاعهم التعيسة.
نضرب مثالين: كيف تقيِّمون فيلم «أصحاب ولا أعز» وما أفرزه؟ وما تصنيفكم لفيلم «صالون هدى»؟
– الفيلم الأول سرقة غشيم من الفيلم الإيطالي «غرباء تماماً»؛ لأنه صورة طبق الأصل غير أنه ناطق بالعربية، والمؤدون عرب، والألفاظ غاية في البذاءة والانحطاط! والأصل والصورة دعوة إجرامية للتطبيع مع الشذوذ والانحراف، وأذكر أن السينمائيين المصريين القدامى مع ضعف إمكاناتهم المادية والفنية كانوا يمصِّرون بعض الروايات الأجنبية؛ فيعطونها مذاقاً عربياً وإنسانياً محبباً ومقبولاً، بل إن بعض هذه الأعمال يظل حياً كلما تقادم الزمان، ولعل فيلم «أمير الانتقام» من أبرز هذه الأفلام، ومن ينسى «حسن الهلالي»، وكفاحه في مواجهة الظلم والقهر؟ صنَّاع السينما والفنون في زماننا تجار غير أمناء، مع الاستثناء النادر الذي يثبت القاعدة.
«أصحاب ولا أعز» تطبيع مع الشذوذ والانحراف و»صالون هدى» تشويه للقضية الفلسطينية
ويؤسفني أن يقوم فلسطينيون بتشويه صورة جهاد شعبهم تحت ذرائع مختلفة، مثل: إن الفن يطرح أسئلة ولا يجيب عنها؛ فهذه ذرائع غير مقبولة، وهناك خونة في كل زمان ومكان، ومقاومتهم ليست بالسذاجة التي صنعها «صالون هدى»، التعري ليس الخطأ الوحيد في الفيلم، بل تصور القضية الفلسطينية وفقاً للنظرة العلمانية، فهذا التصور خطيئة كبرى، والشعب الفلسطيني -خاصة المرأة الفلسطينية- يقوم بأشرف الأدوار، والمقاومة الإسلامية أثبتت أنها الوحيدة التي أجبرت العدو المجرم لأول مرة على دخول الملاجئ مع فارق القوة، ولأم الشهيد الفلسطينية بطولة نادرة في التاريخ الحديث على الأقل، وهذا ما يجب التأكيد عليه وإبرازه باستمرار، لكن أدعياء التنوير في فلسطين وخارجها لا يعملون لصالح فلسطين، بل أتهمهم بالعمل لصالح العدو!
ظهرت موجة «المهرجانات الشعبية» بمصر، هل ترى تلك الأشكال أنماطاً مرتبطة بسوء الواقع أم تمرداً على الواقع؟ وكيف تقيِّمها؟
– هذه المهارج نتاج لواقع سيئ ورديء ومتهالك، ونحن الآن أمام عالم من الهلوسات وسمادير المخدرين والمساطيل والمدمنين والمغيبين؛ فلا وزن ولا إيقاع، ولا معنى ولا قيمة.
هناك إسفاف غير مسبوق، لا تسمع فيه غير قرع الأواني وخبط الحلل كما يقول العامة، ولا شيء من الفن هناك، ولكنْ انحطاط غير مسؤول.
ولقد عالجتُ هذه المسألة قبل سنوات في بعض رواياتي (قيد النشر) حين نبهني بعض الشباب إلى تلك الظاهرة، فقرأت ما يقولون، وسمعت بعضهم، فكانت الفجيعة.. إنهم شباب صنعهم واقع قاس يكتظ بالفقر والجهل والزحام، فوجدوا في الأفراح والحفلات الشعبية فرصة للظهور والهروب إلى المال السهل والعيش في حياة مادية توفر لهم ما لم يحلموا به في عصر الزيف والبهتان واللهو القبيح!
كيف ترى مستقبل الفن الهادف أو النظيف في ظل محاولات شيطنة هذا الاتجاه؟
– دعنا نتفق أولاً أن الفن منذ عهود الإغريق وقدماء المصريين لا بد أن يكون هادفاً ونظيفاً؛ لأن ذلك يعبر عن الفطرة الإنسانية أياً كانت معتقدات أصحابها، والفن غير النظيف ضد الفطرة، ومعبر عن الشهوة بأنواعها، والفارق كبير، وشيطنة الفن الهادف النظيف ممر آثم لشيطنة الإسلام، واتهام التوجه السلفي أو بعض الجماعات التي تحمل صفة إسلامية نوع من الحيلة الخائبة لتجنب اتهام الإسلام مباشرة، ومعلوم أن بعض الجماعات السلفية على الساحة موجّهة لخدمة الاستبداد والترويج له، وهي مدعومة من جهات نافذة، مثلها في ذلك مثل الشيوعيين والناصريين والأرزقية ومن يسمون أحياناً بالعلمانيين! فهم يخدمون الأنظمة المستبدة التي تدعمهم لتسويغ فشلها وإلقاء تبعته على الإسلام، بدلاً من مراجعة نفسها وتصحيح أخطائها.
فالفن غير النظيف سينتهي عندما يكبر المراهقون ويفيق المغيبون، أما الفن النظيف فهو باقٍ في كل زمان ومكان.
نذهب إلى رابطة الأدب الإسلامي، كيف ترى دورها في استعادة الأدب الهادف مكانته، ودعم الفن النظيف بهذا الأدب؟
– رابطة الأدب الإسلامي أداة جيدة من أدوات تجديد الأدب وخدمة الكلمة الطيبة، لكنها للأسف تعاني بسبب ضعف الإمكانات المادية، ووسائل النشر، وقلة الكوادر النشطة، وتضييق العناصر العلمانية التي تتصدر المؤسسات الثقافية والإعلامية الرسمية، ولكن المؤمنين بالكلمة الطيبة يقدمون ما يقدرون عليه في ظل مناخ قاتم وطارد.
الرابطة أطلقت قبل عقود مسابقات في الرواية وأدب الأطفال والمسرح والشعر، ومن خلالها عرفت مواهب جديدة طريقها إلى الكتابة والظهور، لكن الأدب في هذه الأيام تراجع تراجعاً مخيفاً، وقد فصّلت ذلك في كتابي الذي صدر قبل شهور تحت عنوان «الفجر الصادق- تحديات الأدب المعاصر».
هل يحتاج الأدب الهادف والفن النظيف لوقف إسلامي يبذل لهما دعماً متواصلاً من أجل الانتشار وتحسين ذوق الجمهور وتوعيته إيجابياً؟
– بالتأكيد، الدعم المادي مطلوب في ظل ظروف غير متكافئة بين الأدب الجيّد والأدب الرديء؛ فالأخير مدعوم من جهات رسمية بغير حدود، ولا يسمح للأدب الجيد بالظهور، أو حتى الإشارة إليه خبرياً في أجهزة الإعلام الرئيسة.
هناك مؤسسات نشر رسمية في بلاد عربية تنشر كتباً أدبية وثقافية لا تتحقق فيها مواصفات اللغة والموهبة والرؤية الجيدة والبحث العلمي، ولكنها ترفض الأعمال الممتازة تحت ذرائع سخيفة؛ لأن المعنيين بالنشر يعشقون الأدب الرديء أو الفكر المنحرف الذي يخدم توجهات غير إنسانية.
الموهبة قادرة على احتواء كل القضايا من خلال الإيحاء والرمز والتصوير الحي الراقي
ما نصيحتكم للأدباء والفنانين في هذا الزمان لإصلاح الموجود واستعادة المفقود؟
– أنَّى لي أن أنصح؟ إذا جاز النصح فهو لنفسي بأن أصحح أخطائي، وأتوجه إلى ما يثري تجربتي، ويغني كتابتي، ويجعلني أكثر قرباً من الله تعالى.
وهو ما أرجوه لأبنائي وأحفادي من الأدباء والفنانين، املكوا أدواتكم، وأكثروا من القراءة قبل أن تكتبوا، واطّلعوا على عيون الفنون الإنسانية قبل أن تقدموا عملاً فنياً، وقبل كل ذلك وبعده احتضنوا قيم أمتكم العظيمة، ومُثُلها الإنسانية الرفيعة، ولا تلتفتوا إلى خدَّام الغرب المتوحش، وقيمه المادية الجشعة!