يقبل رمضان فتحدث تغيرات تطول الكون كله؛ فيتوقف أزيز الشياطين وما يلقون به من وساوس البغضاء والحقد، وتتوقف تلك الشحنات السلبية التي تلقى في القلوب، وتغلق أبواب جهنم كلها وتفتح أبواب الجنة كلها نكاد نشم أريجها في أيام وليالي رمضان، وتتلون الحياة كلها بدعوة الإقبال على الخير والكف عن الشر.
في شهر رمضان ترق القلوب والضمائر، وتشحن الروح بمدد من السماء، وتكون الفرصة الأكثر من مناسبة للتصالح مع النفس مع ما يقتضيه ذلك من العفو عمن تقاطعت طرقه معنا وتركت في قلوبنا مشاعر الحزن أو الغضب، الغيرة أو الحسد.
رمضان هو الوقت المبارك الأكثر مناسبة لتفعيل قيم العفو والصلح وصلة الأرحام
تزداد قيمة الصلح أهمية كلما كانت الدوائر أكثر قرباً وحميمية؛ لأنها ستكون قيمة مركبة من العفو والصلح وصلة الأرحام، ورمضان هو الوقت المبارك الأكثر مناسبة لتفعيل هذه القيم وتطبيقها وممارستها بشكل حقيقي وعملي وصادق؛ فعلى كثرة ما يحاك للأمة من مؤامرات ومحاولة تفريغ العبادات من مضمونها وأهدافها أو الالتفاف حولها، فإن شعيرة الصيام ظلت في وجدان المسلمين في نفس مكانتها السامقة التي تجعل الجميع في حالة من الترقب والاشتياق إليها؛ فكيف يمكن أن نمارس عبادة إصلاح ذات البين التي تتشابك كسبب ونتيجة لمشاعر التقوى التي هي ثمرة الصيام؟
يمكننا تقسيم الخلافات والمشكلات بيننا وبين الآخرين بطريقتين مختلفتين:
الأولى: بحسب الدوائر الأقرب فالأبعد، بحيث نبدأ بعملية إصلاح متتال من الأقرب درجة ثم الذين يلونهم وهكذا، وأقرب الدرجات هم الوالدان بالتأكيد، ومن المؤسف أن نجد علاقات بين الوالدين والأبناء يسودها الشقاق والنزاع، أو حتى الفتور واللامبالاة، وهو أمر لا يستقيم مطلقاً، فكيف يستمر هذا الجفاء مع شهر الرحمات؟ مهما كان الظلم أو الخطأ الذي أوقعه الوالد على ولده، لا بد أن يتحرك الابن لتجاوزه، وأن يطهر قلبه من الغضب، ولن يتحقق ذلك إلا بالعفو والتحرر من ثقل الغضب والحزن، وأن يحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى الذي هو شاهد عما يدور في قلبه.
الثانية: من طرق حل الخلافات أن تكون بحسب وزن هذه المشكلات والخلافات نفسها؛ فكثير من الخلافات مجرد شوائب ومواقف صغيرة متراكمة أحدثت حالة من الفتور قد تصل للهجر، وهذه الخلافات سهلة الحل، فهي لم تنجم عن مشكلات كبيرة وفادحة يصعب تجاوزها وحلها، هي في غالبها مواقف أسيء فهمها وتفسيرها، وكثير من الخلافات الزوجية يمكن إدراجها تحت هذه النوعية من المشكلات، وكي نتعرف على حقيقة حجم المشكلة لا بد من البحث عن سبب الخلاف الأساسي، وسنجد أنه صغير لكنه متعدد ومتشابك، ومن هنا توهمنا صعوبة الحل.
حل هذه النوعية من المشكلات يحتاج إلى ثلاثة أمور يسيرة، هي:
1- خطوة عملية للحل والصلح (اعتذار واضح، أو حوار تضع نفسك فيه موضع الطرف الآخر، أو هدية مع كلمات رقيقة..).
2- حسن الظن (لأن معظم هذه المشكلات لم تقم على حقائق وإنما عن سوء ظن متبادل).
3- الصبر وتكرار المحاولة؛ فالمشكلة تشابكت عبر وقت ليس بالقصير، وبالتالي نحن بحاجة للوقت كما الجهد لإصلاحها.
أما المشكلات الأخرى ثقيلة الوزن غائرة العمق شديدة التعقيد، ففي ظل الطاقة الإيمانية القوية التي نستمدها من الصيام والقيام وفتح أبواب الجنان نكون قادرين على مواجهتها ومحاولة تفكيكها، ويمكننا الاستعانة بأشخاص من ذوي الخلق والدين والخبرة الواسعة للمساعدة في تقريب وجهات النظر؛ فالأمر المؤكد أن مشاعر التقوى ستكون محركاً قوياً للبدء والمواجهة لا التجاهل واليأس، كما أن البركة في رمضان تحقق المعجزات في العلاقات كما في القلوب.
الصيام الحقيقي يمنح الإنسان الإرادة للسيطرة على انفعالاته وتوجيه وعيه نحو حقيقة الصوم
تحديات الإصلاح
لكن هناك عوائق تعترض طريقنا في رمضان وقد تشتت مشاعرنا الإيمانية وتحول بيننا وبين الطاقة الإيمانية العالية التي تجعلنا نتجاهل كثيراً من الهفوات والمنغصات، وتمنحنا القدرة على العفو والتسامح، ومن ثم الوصول لمرحلة الصلح والسلام، بالإضافة للأزمات الاقتصادية التي يعاني منها العالم كله الآن، والانشغال بتلك الضغوط الاقتصادية يحول بين المرء وصفاء قلبه.
كما أن بعض الصائمين لا يستطيع التحكم في انفعالاته ما يسبب كثيراً من المشكلات ويؤدي لتخريب العلاقات داخل الأسرة، وهنا يتحول نهار الصيام للمشاحنة والخلاف والتباعد؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»، فالصيام الحقيقي يمنح الإنسان الإرادة للسيطرة على انفعالاته وردود فعله وتوجيه وعيه نحو حقيقة الصوم الذي يمارسه.
شهر رمضان وما فيه من عبادات كالصيام والقيام والصدقة والذكر وما يعكسه ذلك كله من رقة في القلب وحساسية في الضمير وانشراح الصدر وهو يتنسم رائحة الجنة التي فتحت أبوابها كفيل بإصلاح العلاقات التي تشوهت بتجديد تلك العلاقات التي أصابها الفتور، وتراكم عليها غبار تفصيلات الحياة اليومية ومشكلاتها الصغيرة؛ فداخل الأسرة الصغيرة سيجتمع الجميع على مائدة الإفطار ومائدة السحور، وهي فرصة ذهبية للحوار والكلام بين الزوج والزوجة وبينهم وبين الأبناء، هذا الحوار البسيط هو إحدى أهم الأدوات لتذويب الجليد الذي أصبح إحدى سمات الحياة العصرية.
في رمضان هذا العام تقلصت جائحة «كورونا»؛ ومن ثم سوف تفتح المساجد أبوابها لصلاة التراويح، وهي فرصة جميلة جداً للخروج معاً كأسرة والذهاب للمسجد والالتقاء هناك بالجيران والأقارب والأصدقاء، هذا الجو الاجتماعي الذي افتقدناه يساعد الإنسان على المستوى الفردي من التخلص من المشاعر السلبية، ويساعده كثيراً على تحسين مزاجه، أما على المستوى الجمعي فهو يعيد الدفء للعلاقات ويقوم بتجديدها ويفتح أبواباً كثيرة للخير؛ فهناك مادة جديدة للحوار وحالة مزاجية مرتفعة ومشاعر إيمانية مرهفة، ستجعل عملية العطاء النفسي أكثر يسراً، والعطاء سيقابل بالعطاء ولو بعد حين، ومن ثم تدخل العلاقة بين الزوجين في دوائر متصاعدة تدريجية من الإيجابية.
على أن تجديد العلاقات يتسع للعائلة الكبيرة كلها من خلال صلة الأرحام التي يعتبر رمضان الموسم الذهبي لها خاصة بعد تراجع الجائحة وما تبعها من إغلاق وتباعد اجتماعي؛ فالفرصة مواتية تماماً لتناول الإفطار الجماعي معاً كعائلة وتبادل الزيارات وتجديد العلاقات والصلات، مع ملاحظة أساسية أن نتخفف من الغلو في تقديم الطعام لأسباب متعددة، لعل أهمها أن الله تعالى لا يحب المسرفين، وأن هناك من يتم طحنهم بين أنياب الفقر وهم أولى بهذا الطعام الزائد خاصة في هذا الشهر، وغيرها من الأسباب.
وفي النهاية، فإن اجتماع العائلة في رمضان فرصة لوصل الأرحام، كما أنه فرصة للإصلاح داخل العائلة إذا كان هناك خلاف ما بين بعض أطرافها، واعتبار ذلك من أعظم الأعمال التي نتقرب بها لله تعالى في هذا الشهر.