الفتح الأعظم.. غزوة فتح مكة:
عندما عقد الرسول صلى الله عليه وسلم مع قريش صلح الحديبية، كان من بين بنوده أن من أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فليدخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، والتزمت قريش وحليفتها بالصلح لمدة عامين؛ إلا أنهم ونظراً لاعتقادهم أن المسلمين قد ضعفوا وزالت هيبتهم بعد ما حدث في مؤتة، وخيّل إلى بني بكر “حليفة قريش” أن ينالوا من خزاعة أحلاف الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان بين بني بكر وبين خزاعة عداء قديم يرجع تاريخه إلى ما قبل البعثة، وجاء الإسلام فحجز بينهم، وتشاغل الناس بشأنه، فلمّا كانت الهدنة، ودخلت القبيلتان في معسكرين متحاربين، أراد بنو بكر أن ينتهزوا هذه الفرصة، ليصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فبيّت نفر من بني بكر لخزاعة في شهر شعبان سنة 8 هـ، وهم على ماء لهم يسمى (الوتير) فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسّلاح، وقاتل معهم أشراف من قريش مستخفين ليلاً، فقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله بالمدينة يخبره بغدر قريش وإخلافهم العهد وأنشد أبياتا من الشعر أمام الرسول صلى الله عليه وسلم يستنصره بها، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “نصرت يا عمرو بن سالم”(1).
النبي يخير قريش بين أمور ثلاثة
روى ابن عائذ، عن ابن عمران: أن ركب من خزاعة قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه خبرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: “فمن تهمتكم وظنتكم؟: قالوا: بنو بكر: قال: “أكلها”؟: قالوا: لا ولكن بنو نفاثة ورأسهم نوفل بن معاوية النّفاثي، قال: “هذا بطن من بني بكر، وأنا باعث إلى أهل مكة، فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال ثلاث”، فبعث إليهم ضمرة يخبرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرؤوا من حلف بني نفاثة أو ينبذ إليهم على سواء، فأتاهم ضمرة، فأخبرهم، فقال قرطة بن عمرو: لا ندي ولا نبرأ لكنا ننبذ إليه على سواء، فرجع بذلك فندمت قريش على ما ردوا وبعثت أبا سفيان بن حرب تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجدد العهد(2).
خروج أبي سفيان إلى المدينة ليجدد الصلح
ولما ندمت قريش على نقضهم لعهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدت مجلسا استشارياً، وقررت أن تبعث أبا سفيان لتجديد الصلح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرهم فقال: “كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد وليزيد في المدة” وخرج أبو سفيان من مكة ولقي بديلا وأصحابه بعسفان فقال له: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفى بطن هذا الوادي، فقال أبو سفيان: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان بديل جاء المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففتّه فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًّا.
إيثار النبي على الآباء والأبناء
استمر أبو سفيان في مسيره حتى قدم المدينة، والتقى بابنته أم حبيبة، وظن أن ابنته قد تكون شفيعًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها بادرته بما ألقى في نفسه اليأس، وذلك أنه لما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل نجس مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه، قال: والله يا بنية لقد أصابك بعدي شر، فقالت: بل هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيّد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدّخول في الإسلام، وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟ فقام من عندها(3)، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في تجديد العقد فقال: يا محمد اشدد العقد، وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ولذلك قدمت هل كان من حدث قبلكم”؟ قال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية، لا نغير ولا نبدل، فلم يرد عليه شيئا.
كبار الصحابة يرفضون الشفاعة لأبي سفيان
فلما رأى أبو سفيان أنه لم يحصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ذهب إلى أبى بكر رضي الله عنه فكلمه أن يكلم له الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم خرج حتى دخل على علي بن أبى طالب رضي الله عنه وعنده فاطمة رضي الله عنها، ومعها الحسن رضي الله عنه غلام يدب بين يديها فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت فاشفع لي، قال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيكِ هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر، فقالت: والله ما بلغ بُني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، فقال علي رضي الله عنه: والله ما أعلم شيئاً يغني عنك شيئاً ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه ولكنني لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته فو الله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو، ثم أتيت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته فو الله ما أدري هل يغني شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله ما زاد الرجل على أن لعب بك فما يغنى عنك ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك(4).
استعداد النبي للخروج وسريته
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهّز للغزو وأخفى وجهته، حتى يفاجئ قريشًا، فيتحقق له النصر بأقل الخسائر، ودعا الله تعالى قائلًا: “اللهمَّ عمِّ عَليهم خَبَرَنا حتى نأخُذَهم بغتةً”، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي بنية أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ، فتجهز الناس(5).
خروج النبي من المدينة واستخلافه أبا رهم
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة في رمضان سنة ثمان للهجرة في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري، ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ولحق بالعسكر، فسار معه صلى الله عليه وسلم وبعث ثقله إلى المدينة، وكان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض(6).
نزول الجيش الإسلامي بمر الظهران
وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ كديدا – وهي عين جارية تبعد عن مكة 86 كيلاً، وبينها وبين المدينة 301 كيلاً – فأفطر وأفطر الناس معه، ولما وصل الجيش الإسلامي إلى مر الظهران عشاء، أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، فكان منظراً مهيباً، النيران ملء الأرض، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عنه ولا يدرون ما هو فاعل، فهم على وجل وارتقاب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم.
أبو سفيان بين يدي النبي
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب: فقلت: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة، فو الله إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي، قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله، قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله!، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء، قال: فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه، قلت: مهلا يا عمر، فو الله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحق، فأسلم، قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها، قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه(7).
أبو سفيان يذهب لأهل مكة ويأمرهم بالاستسلام
وبعد ذلك رجع أبو سفيان إلى أهل مكة وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت(8) الدسم(9) الأحمس(10) قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك، قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
دخول جيوش المسلمين مكة
وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة، وهو واضع رأسه تواضعا لله، ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة دخول الفاتحين المتغطرسين، وبين يديه المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم، ورافعا كلّ شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمان من الهجرة، وأردف أسامة بن زيد، وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردف أحداً من أبناء هاشم وأبناء أشراف قريش، وهم كثير، يقرأ سورة الفتح ويرجِّع في قراءتها(11).
دخول النبي المسجد الحرام وتطهيره من الأصنام
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه المسجد الحرام وأمر بتحطيم الأصنام وتطهير البيت الحرام منها، وشارك في ذلك بيده فكان يهوي بقوسه إليها فتساقط وهو يقرأ: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) الإسراء:81، وكانت ستين وثلاثمائة من الأنصاب ولطخ بالزعفران صور إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام وكانت هذه الصور داخل الكعبة، وقال: قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام، ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة إلى بعد أن محيت هذه الصور منها، ثم صلى فيها ركعتين، وذلك بين العمودين المقدمين منها، وكانت مبنية على ستة أعمدة متوازية، وقد جعل باب الكعبة خلف ظهره، وترك عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة وراءه(12).
دعوة رسول الرحمة إلى التوحيد ومعاملته مع قريش
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة فأعطاه مفتاح الكعبة، وكانت الحجابة في بني شيبة في الجاهلية فأبقايا بأيديهم، وكانت قريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال: “لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كلّ مأثرة أو مال أو دم، فهو تحت قدميّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج”(13)، “يا معشر قريش! إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة، وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب”، ثمّ تلا قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر قريش، ما ترون أنّي فاعل بكم”؟، قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: “فإنّي أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء”(14)، وأمر بلالاً رضي الله عنه أن يصعد، فيؤذن على الكعبة، ورؤساء قريش وأشرافهم يسمعون كلمة الله تعلو، ومكّة ترتجّ بالأذان، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أمّ هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل، وصلّى ثماني ركعات صلاة الفتح شكراً لله عليه(15).
_____________________________________
(1) سيرة ابن هشام (2/ 390)، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص: 444).
(2) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (3/ 384)، ومغازي الواقدي (2/ 787).
(3) سبل الهدى والرشاد (5/ 206)، والبداية والنهاية (4/ 320).
(4) سيرة ابن هشام (2/ 396-397)، ودلائل النبوة للبيهقي (5/ 8).
(5) سيرة ابن هشام (2/ 397).
(6) سيرة ابن هشام (2/ 400)، وشرح الزرقاني على المواهب (3/ 399).
(7) سيرة ابن هشام (2/ 402-404).
(8) هو الوعاء الذي يكون فيه السمن ونحوه، فأرادت أن تنسبه إلى الضخم والسمن. انظر النهاية (1/ 419) – الروض الأنف (4/ 158).
(9) الدسم: الأسود الدنيء. انظر النهاية (2/ 110).
(10) الأحمس هنا: الذي لا خير فيه انظر الروض الأنف (4/ 158).
(11) اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (4/ 53)، والسيرة النبوية الصحيحة روايات السيرة النبوية (2/ 482).
(12) أخبار مكة للأزرقي (1/ 169)، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (5/ 239).
(13) أخرجه أبو داود في سننه (4547)، وابن ماجه في سننه (2627)
(14) زاد المعاد (1/424).
(15) أخرجه البخاري في صحيحه (1176)، ومسلم في صحيحه (336).