لملم أشياءه؛ ذلك قرار اتخذه بعد عناء، أوصته جدته حين يكبر أن يفتح الباب الخشبي العتيق، كان في بلاد المنفى بلا جذر، عاش تائها، يحمل أوراق هويته الممزقة، عاش في المخيمات، كل شيء فيها مؤقت، حتى الأمكنة أطلقت عليها أسماء بلاد الزعتر والليمون، هذا أبو عائد وذلك ثائر وتلك فدوى، أكثر ما يفكر فيه كيف يعود؟
يحدث نفسه:
لن أموت سدى!
تخبره جدته:
أن جسدها أصابه الوهن؛ كم تتمنى أن تكون هناك!
ترى هل يسمحون له بحمل المفتاح للباب الخشبي العتيق!
يسأل جدته:
–ألا يستطيع التخفي عن عيون هؤلاء القتلة ومن ثم يدلف إلى الخليل؟
حين كان طفلا حلم بأن طائرا كبيرا لونه أخضر حمله بين جناحيه ومن ثم أدخله بيت أجداده، هذه حجرة جدته التي قصت عليه كيف كانت كبيرة تتسع لصغار يستمعون إلى حكيها، والعصفور يزقزق عند البيارة، هذه عمته مريم تحمل سنابل القمح لتطعم الحمام!
أبوه وأعمامه يحرثون الأرض،
جرة العسل ممتلئة.
لم تخبره الجدة أن تلك الأسلاك الشائكة وضعت أولا بين الإخوة؛ بنو العم ينصبون الفخاخ لأفراخ اليمام، ألف بندقية تتربص بها!
يمرحون في ردهات البيت الكبير؛ غرفه تبلغ اثنتين وعشرين، الغرفة التي بلا باب مفتاحها مع عائد!
اشتاق إلى كرمة العنب تتهادى عناقيدها، حباتها الصفراء شهية أحلى من العسل، الزيتونة العتيقة غرسها الخليل حين مر من هنا إلى أرض الحرم؛ قصت عليه حكاية عبدالقادر الحسيني وكيف تمنطق بالبارود، إنه جده!
ترى هل آن زمان العودة!
هؤلاء المتهافتون لا يعرفهم، لم يأتوا إلا ليوقعوا أوراق العار!
حقا ينتظره أجداده؟
تحسس جيب معطفه فما يزال المفتاح النحاسي ذو الأسنان لامعا؛ سيعالج به القفل الذي ربما علاه الصدأ!
لكنه كبير!
لا يمكن إخفاؤه بين طيات ملابسه، حاول أن يتدبر حيلة، أن يدسه في حقيبة أوراقه، آلة التفتيش عند مدخل القطار تصدر صفيرها الكريه، يهرع إليه رجال الأمن، يساق إلى غرفة مظلمة.. أسئلة شتى؛ صادروا المفتاح النحاسي؛ تصدر الصحف بعنوان غريب: العثور على مفتاح أثري!
تصيح الجدة: ذلك مفتاح داري!
يمسكون بها؛ إنها تهذي؛ امرأة عجوز مصابة بالخرف!
يهدر صوت المذياع بأغاني العودة؛ تزم شفتيها؛ ترى أين أنت يا عائد!
يصوبون إليها بنادقهم!
على شاشة قناة الأخبار يتراقص الأوغاد، يحملون القرابين، تعج المقاهي بمن يتابعون مباريات كرة القدم!
يحدث نفسه:
لكن الأبواب يا جدتي موصدة؛ باتت الحدود جبالا من الخيانة!