مولد بن حزم [1]
في 30 رمضان 384هـ/ 7 نوفمبر 994م، وُلد الإمام الجليل محمد بن حزم الظاهري الأندلسي، أحد أعلام المسلمين في القرن الخامس الهجري، وصاحب المؤلفات المعروفة في الفقه والتاريخ ومقارنة الأديان.
نسبه ومولده
هو الإمام الحجة عند أهل الظاهر أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدِ بنِ حَزْمِ الفَارِسِيُّ الأَصْل، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ، الفَقِيْهُ، الحَافِظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَدِيْبُ، الوَزِيْرُ، الظَّاهِرِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وُلد في الثلاثين من شهر رمضان سنة (384هـ – 994م) بمدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة، عاصمة الأندلس من أسرة غنية رفيعة الشأن عريقة النسب، كان أفرادها من ذوي المجد والحسب والعلم والأدب، كان والده أحمد بن حزم أحد وزراء المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس القوي، فنشأ ابن حزم في تنعم ورفاهية، يلبس الحرير، ويتسور الذهب، يطالع الكتب على قناديل الذهب والفضة المضاءة بشموع العنبر والمسك، وقد كان أبوه يعده ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله، وكان ابن حزم قد رزق ذكاءً مفرطًا، وذهنًا سيالاً، فعكف على دراسة الآداب والأشعار والأخبار، وعلوم المنطق والفلسفة، وهو ما أثر عليه في مستقبله، وقد هيَّأ الله لابن حزم نساءً فُضْلَياتٍ قُمْنَ على تربيته وتعليمه، وقد حفظ القرآن الكريم على أيديهن، إضافةً إلى ذلك كان والد الشيخ من العلماء الكبار المشهود لهم بالخير وسعة العلم وحسن الخُلُق، وهذا ما ذكره ابن حزم عن نفسه في كتاب “طوق الحمامة في الألفة والألاف”، ويشير في هذا الكتاب إلى العلماء الكبار الذين استجلبهم لتثقيفه وتعليمه وتهذيبه، ويذكر أيضاً أنه تلقى تربيته الأولى في رعاية بعض النساء العالمات من أهل بيته، وقيل: لعل هذا الأمر كان له الأثر في رهافة حسه وثراء وجدانه.
سعة علمه
وقعت حادثة لابن حزم وهو في أواسط العشرينات من عمره دفعت به إلى طريق العلم الشرعي، حيث تعرض لموقف حرج بان فيه قلة علمه وفقهه، فقرر سلوك طريق العلم والبحث، وترك طريق الوزارة والرياسة، فتفقهه أولاً على مذهب الشافعي، ومع تبحره في العلوم الشرعية، ونهمه الشديد في الأخذ من الأصول المباشرة، وصل إلى مرحلة الاجتهاد، وقد أدَّاه اجتهاده إلى نفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النصوص والعموميات الكلية، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وبالجملة جدد القول بالظاهر، وهو المذهب الذي وضعه الإمام داود بن علي بالعراق في القرن الثالث الهجري، وكان ابن حزم ينهض بعلوم جمة، وفنون كثيرة، مع إجادة تامة للنقل والعرض والتصنيف، وفوق ذلك كله كان شاعرًا مطبوعًا، وأديبًا بليغًا، ومؤرخًا ناقدًا، عاصر فترة عصيبة في الأندلس، طارت شهرته في الأندلس كلها حتى تعدت البحر، ووصلت إلى بلاد المغرب والمشرق، وصار رأسًا من رءوس الإسلام، وكان ابن حزم رحمه الله مفسِّرًا، محدِّثًا، فقيهًا، مؤرِّخًا، شاعرًا، مربِّيًا، عالمًا بالأديان والمذاهب، ويزداد هذا الأمر وضوحًا باطِّلاعنا على هذا الكمِّ الكبير من مؤلفاته في شتَّى الميادين العلميَّة.
كرم أخلاقه
كان الإمام ابن حزم يتَّصف بعدة صفات منها: قوة الحافظة، البديهة الحاضرة، عمق التفكير والغوص في الحقائق، الصبر، الجَلَد، المثابرة، الإخلاص، الصراحة في الحق، الوفاء، الاعتزاز بالنفس من غير عُجْبٍ ولا خُيَلاء.
شيوخه
سَمِعَ ابن حزم مِنْ طَائِفَةٍ من العلماء مِنْهُم: يَحْيَى بن مَسْعُوْدِ بنِ وَجه الجَنَّة، صَاحِب قَاسِم بن أَصْبَغ، فَهُوَ أَعْلَى شَيْخٍ عِنْدَهُ، وَمِنْ أَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ الجَسور، وَيُوْنُس بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُغِيْث القَاضِي، وَحُمَامِ بن أَحْمَدَ القَاضِي، وَمُحَمَّدِ بن سَعِيْدِ بنِ نبَات، وَعَبْدِ اللهِ بن رَبِيْع التَّمِيْمِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللهِ بنِ خَالِدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، وَأَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ الطَّلَمَنْكِي، وَعَبْدِ اللهِ بن يُوْسُفَ بنِ نَامِي، وَأَحْمَد بن قَاسِم بن مُحَمَّدِ بنِ قَاسِم بن أَصْبَغ.
تلاميذه
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ أَبُو رَافِعٍ الفَضْل، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ، وَوَالِد القَاضِي أَبِي بَكْرٍ بنِ العَرَبِيِّ، وَطَائِفَةٌ أخرى.
مؤلفاته
هناك اتفاق بين أهل العلم على أن أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا الإمام ابن جرير الطبري، يليه الإمام ابن حزم الأندلسي، فلقد ترك ابن حزم ثروة علمية ضخمة وشاملة في شتى أنواع الفنون، وله مصنفات بديعة، ومؤلفات باهرة في الفقه والحديث وأصول الدين، والمذاهب والفرق والتاريخ والأدب والطب، ويأتي على رأس مصنفاته كتاب “المحلي بالآثار” الذي قال عنه سلطان العلماء العز بن عبد السلام: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل: “المحلى” لابن حزم، وكتاب “المغني” لابن قدامة.
ولابن حزم كتب أخرى بلغت كما قال عن ذلك ولده أبو رافع: الثمانين ألف ورقة، ومن أهم كتبه: “الإيصال في فهم الخصال” وهو في خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب “الجامع في صحيح الحديث”، و “اختلاف الفقهاء”، “مراتب الإجماع”، “الإملاء في قواعد الفقه”، “الفرائض”، “الفصل في الملل والنحل” وهو من كتب الفرق الشهيرة، “مختصر في علل الحديث”، “طوق الحمامة” وهو من الكتب المثيرة للجدل، والتي جلبت على ابن حزم كثيرًا من اللوم، “نقط العروس” وهو من الكتب الرائعة في التاريخ، وجلب عليه كثيرًا من المحن مع ملوك عصره، “الرسائل الخمس، أو جوامع السيرة”، “رسالة في الطب النبوي”، “الإحكام في أصول الأحكام” وهو من كتبه الفريدة في بابها، وعلى منوالها نسج من جاء بعده: مثل الآمدي والرازي وابن الحاجب وغيرهم، “الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفي التناقض عنها”، وهو في عشرة آلاف ورقة، وهو من أروع ما كتبه هذا الإمام الفذ العلَّامة، وله مصنفات أخرى كثيرة يضيق المقام بذكرها تدل على سعة علمه، وسيلان ذهنه، وذكائه المفرط، وبصيرته النافذة لأحوال عصره.
منهجه في البحث
بدأ ابن حزم طلبه للعلم بحفظ القرآن الكريم، ثم رواية الحديث، وعلم اللسان، فبلغ في كل ذلك مرتبة عالية، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الفقه، فدرسه على مذهب الإمام مالك؛ لأنه مذهب أهل الأندلس في ذلك الوقت، ولكنه كان مع دراسته للمذهب المالكي يتطلع إلى أن يكون حرًّا، يتخير من المذاهب الفقهية ولا يتقيد بمذهبٍ؛ ولذلك انتقل من المذهب المالكي إلى المذهب الشافعي، فأعجبه تمسُّكه بالنصوص، واعتباره الفقه نصًّا أو حملاً على النص، وشدة حملته على من أفتى بالاستحسان؛ ولكنه لم يلبث إلا قليلًا في الالتزام بالمذهب الشافعي، فتركه لمَّا وجد أنَّ الأدلة التي ساقها الشافعي لبطلان الاستحسان تصلح لإبطال القياس، وكل وجوه الرأي أيضًا، ثم بدا له أن يكون له منهجٌ خاصٌّ وفقهٌ مستقل، فاتَّجه إلى الأخذ بالظاهر، وشدَّد في ذلك، حتى إنَّه كان أشدَّ من إمام المذهب الأوَّل داود الأصفهاني.
ثناء العلماء عليه
قال الأمير أبو نصر بن ماكولا: “كان فاضلًا في الفقه، حافظًا في الحديث، مصنِّفًا فيه، وله اختيارٌ في الفقه على طريقة الحديث، روى عن جماعةٍ من الأندلسيِّين كثيرة، وله شعرٌ ورسائل”، وقال الحافظ الذهبي: “ابن حزم الأوحد البحر، ذو الفنون والمعارف..”، وقال الحميدي: “كان حافظًا، عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علوم جمَّة، عاملًا بعلمه، زاهدًا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمَّة، ومؤلفات كثيرة في كل ما تحقق به في العلوم، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمستندات شيئًا كثيرًا، وسمع سماعًا جمًّا”.
وفاته
تُوفِّي سنةَ 456هـ/ 1064م، عن إحدى وسبعين سنة، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته[2].
[1] – بتصرف من موقع “قصة الإسلام”.
[2] – للمزيد انظر:
– الإحاطة في أخبار غرناطة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424هـ، (4/ 87).
– تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، تحقيق: بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، (10/ 74).
– سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1405هـ/ 1985م، (18/ 184).