حين وقعت عيني مرة أخرى على بعض أعماله، أسفت لأني تركت مناسبة رحيله دون الكتابة عنه، خاصة أن خصوم الإسلام، وأنصار الثقافة الغربية جعلوا منه قدّيسا في بلد يزخر بالضالين والمنحرفين والمتخلفين، وأسبغوا عليه من الصفات والنعوت ما لم ينله كتاب أكبر وأعظم، خدموا دينهم وأمتهم، ولم يتقاضوا ثمناً!
وحيد حامد كان كاتباً موهوباً بلا ريب! يمكن أن يطلق عليه صفة “الصنايعي” المحترف، الذي يعالج الفكرة درامياً عبر الإذاعة أو الشاشة بذكاء فني واضح، وأداء واقعي مقنع، وله كثير من الأعمال عرفها الناس على مدى نصف قرن مضى، وقد حصل من أجلها على جوائز كثيرة، من النظام الذي يخدمه، ومن جهات صحفية، ومهرجانات سينمائية، وجمعيات مهنية وإذاعية وإعلامية وطائفية حتى وصل إلى أعلى جوائز النظام: التقديرية، فهناك مثلاً جائزة أحسن مسرحية وأحسن فيلم والجائزة الفضية عن وزارة الثقافة، وجائزة مصطفى أمين وعلى أمين عن فيلم البريء، وجائزة فيلم “طيور الظلام” من جمعية الفيلم، وجوائز المركز الكاثوليكي لأفضل فيلم سينمائي وأفضل كاتب سيناريو أعوام (1985 – 1998 – 1999م)، وجائزة أحسن سيناريو عن مسلسل (الجماعة) الذي يهجو فيه الحركة الإسلامية، من مهرجان القاهرة للإعلام العربي، وجائزة النيل (مبارك) التي تمنح لكتاب النظام عام 2012م، وقبيل وفاته خصّصت السلطة مهرجان القاهرة السينمائي2020م، وجائزته، لتكريمه والاحتفاء به.
الانزلاق!
كان يكتب أفلاماً اجتماعية ومسلسلات تعالج القضايا اليومية والإنسانية، أقبل عليها الجمهور بشغف في الإذاعة ودور السينما والتلفزيون، بيد أنه انزلق دون أسباب معلنة إلى قضايا الإسلام وعلاقته بالسلطة والاستبداد، فعادى الإسلام والحركة الإسلامية، دون مسوغ عقلي أو فني، واكتفى بتقديم سبب سطحي بأن الإرهاب فرض نفسه علينا، دون أن يقول: إنه ابن النظام بوصفه ناصرياً عشق عبد الناصر، ونظامه الاستبدادي! لم يحارب وحيد حامد الإرهاب بل حارب الإسلام، وصار كل مسلم في أفلامه ومسلسلاته إرهابياً وفصامياً، ومتخلفاً وغبياً، وباحثاً عن الشر بمغناطيس، وعدواً للمجتمع والضحك، وصديقاً للجهامة والبؤس، ولا يفكر إلا في الجنس والطعام والدم!
لقد وظف قلمه ليخدم السلطة على حساب الإسلام في نبرة دعائية فجة جعلت محبي موهبته يقولون له في سرهم: لماذا انحدرت إلى هذا المستنقع، وأنت مثقف يجب أن يقف إلى جانب الحرية: حرية المعتقد والقول والحياة؟
أضعف أعماله
لقد تفاوتت أعماله بين الجودة والضعف، وهو يعترف بذلك في أحاديثه الصحفية، وكانت أعماله التي هجا فيها الإسلام وشوه المنتمين إليه من أضعف أعماله.
جاء وحيد من قرية بنى قريش، مركز منيا القمح، محافظة الشرقية، التي ولد فيها أول يوليو 1944م ليدرس علم الاجتماع في جامعة القاهرة، ويبحث عن المجد والشهرة في مجال الكتابة الدرامية والسينمائية، فجرب كتابة القصة القصيرة، ولم يحقق فيها نجاحاً كبيراً، فوجهه يوسف إدريس (بلدياته) إلى الدراما الإذاعية التي انتقل بعدها إلى السينما والتلفزيون. ساعده على كتابة السيناريو والحوار الراحل “مصطفي محرم” أفضل كتاب السيناريو (لوحظ أنه لم يأت على ذكره أبداً في أحاديثه الصحفية أو الإعلامية)، ربما لاختلافهما الفكري، أو لخلافات شخصية، وبصفة عامة فقد كان مصطفي محرم أكثر منه تعاطفاً مع قيم المجتمع وثوابته، ولم يؤثر عنه أنه أساء إلى الإسلام أو سخر من الشخصيات المتدينة في أعماله بصورة فجة متدنية. (يمكن مراجعة حديثه إلى الصحفي أحمد فاروق، موقع جريدة الشروق، الأحد 17 يناير 2021م، لمعرفة آرائه وأسلوب عمله وحياته).
فتاة محجبة
كانت بذرة الإساءة إلى الإسلام في فيلمه “حد السيف” عام 1986م، حين صور فتاة محجبة عانساً (لم يتقدم أحد للزواج منها) تصويراً يثير الاشمئزاز في تصرفاتها وسلوكها، بينما بقية أسرتها من النساء السافرات يتصرفن بلباقة واتزان وترفع، الفتاة ابنة وكيل وزارة، موهوب في العزف الموسيقي، يدفعه ضيق العيش، إلى العمل وراء راقصة في أحد الملاهي الليلية ليوفر متطلبات أولاده في الزواج والتعليم، ويبدو في الفيلم رافضاً للفساد والرشوة، بعيداً عن المنظور الإسلامي، ترك الوزارة وبات وكيل الوزارة العازف من النجوم، يوقع على الاوتوجرافات للمعجبين، واستمر وراء الراقصه.. كانت هذه البداية للتعبير عن فكر رديء، وقصة ضعيفة!
الشخصية الفصامية
وكرر الأمر نفسه حين صور الموظف الملتحي في فيلم “الإرهاب والكباب”1992م تصويراً فصامياً، يجعله يعطل العمل ومصالح الناس ليتوضأ ويقيم الصلاة، ومع أن الإرهاب والكباب يعالج مشكلة إدارية بسيطة يعاني مثلها كثيراً المصريون، فقد جعل الإرهاب قريناً للإسلام في أعماله، ثم وظفه في فيلمه “طيور الظلام” 1995م، حيث وصم الشخصية الإسلامية بالنفاق، والوحشية، والفصام بين ما تقول وتفعل، وجعلها كائناً دموياً يشتاق للتآمر والقتل والسعي نحو السلطة (تأمل عنوان الفيلم الذي جعله صفة للمسلمين!)، لقد كان يعلم أن نفاق السلطة ييسّر للشخصية الإسلامية ما تريد بشكل أسرع وأرخص، ويوصلها للسلطة دون جهد كبير.. وقد قدم الشخصية المنافقة في الفيلم ذاته فوصلت إلى السلطة، وتمرغت في أوحال الفساد، وتمتعت بالمناصب والجاه والنفوذ دون جهد يذكر إلا استخدام النفاق.. ويلاحظ أنه جعل في الفيلم الشخصية الناصرية التي تعبد الاستبداد رمزاً للثبات على المبادئ والقيم ورفض النفاق!
تيار مخاصم للحرية
لم يكن وحيد حامد وحده في سياق شيطنة الإسلام والمسلمين في السينما، بل كان واحداً من تيار مخاصم للحرية معاد للإسلام، وعلى سبيل المثال، فقد كتب الشيوعي الراحل لينين الرملي عام 1994م فيلمه “الإرهابي” ليقدم صورة بشعة للمسلم القاتل السفاح الذي لايؤمن بالحوار، ولا يحب البهجة ولا الفرح، والمولع بتكفير الآخرين ( زعموا أن الدكتور محمد عمارة كفّر فرج فودة في المناظرة التي أفحمه فيها، وهذا غير صحيح!)، في الوقت الذي يقدم فيه غير المسلم بصورة متحضرة راقية (ومتديّنة ومتمسكة بتعاليم الكنيسة)، بالإضافة إلى تصوير الشيوعي المنحل وأخته المتفرنجة والأسرة المتغربة التي تفهم الإسلام على أنه مجرد أمر شخصي لاعلاقة له بالمجتمع في صورة جميلة ومحبوبة! باختصار لا يوجد في أفلام القوم شخصية إسلامية إيجابية أو ناضجة، أو تملك مقومات الإنسانية.
أيضا يمكن أن نلاحظ في أفلام وحيد وأشباهه عملية تبييض وجه الأجهزة الخشنة، وغسيل سمعتها، دون الإشارة إلى موقف القيادات المستبدة التي تأمر بالقمع والاعتقال والتعذيب، فأفلام مثل البريء، واللعب مع الكبار، والراقصة والسياسي، تلقي بتبعة الانتهاكات الوحشية والمظالم البشعة على أفراد صغار أو ثانويين، دون أن تواجه الحقيقة المرّة، التي تقول ببساطة شديدة، إن الاستبداد يؤذن بخراب الأمم! وما ذلك إلا أن الرجل ومن معه من أبناء النظام، وإن حاولوا التظاهر بالبطولة المزيفة.
الإعلاء من شأن الطائفة
ولعل الإساءة للإسلام تبدو أكثر وضوحاً، في الدراما التلفزيونية، فقد قدم وحيد حامد عدداً كبيراً من المسلسلات الاجتماعية التي عالجت قضايا مختلفة، وفي سياق تشويه الإسلام وإهانة المسلمين، والإعلاء من شأن الأقلية الطائفية، وإثبات تحضرها وإنسانيتها كتب بعض المسلسلات منها العائلة وأوان الورد والجماعة، وغيرها، وفيها يبدو حريصاً على اتهام المسلمين بالتعصب والكراهية والبغضاء، وظلم غير المسلمين، فضلاً عن تشويه بعض المفاهيم الإسلامية، وازدرائها،
عرض في رمضان (عام 1994م) مسلسل “العائلة” من تأليفه، وإخراج رفيقه الناصري إسماعيل عبد الحافظ، ووصف بعضهم المسلسل بأنه “نقطة إنطلاق وحيد في معركته الفنية والفكرية ضد التطرف”، أي ضد الإسلام إذا شئنا تعبيرا أدق.. ووصل أمر المسلسل ذروته بعد تشويه صورة المسلمين وشيطنتهم، حين أنكر من خلال إحدى شخصياته عذاب القبر ونعيمه، وعندما غضب المسلمون لهذه الاستهانة بمفاهيم الإسلام، تدخل شيخ الأزهر الراحل “جاد الحق على جاد الحق”- رحمه الله- وطالب وزير الإعلام بوقف عرض المسلسل، وأصدر بياناً شديد اللهجة طالب فيه وزارتي الإعلام والثقافة باعتبار الأزهر الشريف هو وحده صاحب الرأى الملزم فى تقدير الشأن الإسلامى للترخيص أو رفض الترخيص بالمصنفات السمعية والسمعية البصرية، وفقاً للقانون، وأخيراً تم حل المسألة كما يقول عمرو الليثي، نجل المنتج ممدوح الليثي (المصري اليوم 25 مارس 2022م)، باستضافة ممثل على هيئة عالم دين في حلقة تالية يرد على من أنكر عذاب القبر ونعيمه، ويؤكد أن عذاب القبر ثابت بالقرآن والسنة والإجماع، ويضيف الرجل: الموعظة الحسنة تشمل الترغيب والترهيب معاً، ومبادئ الإسلام تدعو إلى الخير والسماحة ومكارم الأخلاق والعمل الصالح، وهناك ثواب من الله للطيبين وعقاب للمنحرفين، يجدونه في القبر كما يجدونه يوم القيامة.
الأسباب الأخرى
المفارقة أن وحيد حامد جعل الفقر في المسلسل سبباً للإرهاب ولم يذكر الأسباب الأخرى التي تحوّل بعض الناس إلى إرهابيين، مثل القمع والتعذيب والظلم والانتهاكات الوحشية التي لا يقدم عليها الحيوان إلا إذا جاع، ولكن ابن النظام، لا يجد “حائطاً واطياً” غير مفاهيم الإسلام، لأنه حريص على تبييض وجه السادة المستبدين والجلادين الحقيقيين!
مستنقع الفساد
وفي مسلسل أوان الورد الذي عرض عام 2000م يتناول وحيد حامد زواج شاب مسلم من فتاة غير مسلمة من أجل الترويج للوحدة الوطنية التي يرى العلمانيون أن المسلمين يمزقونها ويرفضونها، ولأن الكنيسة تعدّ زواج البنات التابعين لها من الشباب المسلم عدواناً عليها، فقد عارضت المسلسل، وهاج أتباعها في الداخل والخارج، وهاجموا السلطة ووزارة الإعلام، وزعموا أن الوحدة الوطنية أكذوبة، كما هاجموا المؤلف المسلم والمخرج الطائفي لأن عملهما أساء إلى النصرانية على حد قولهم، في حين أن المؤلف صور المجتمع المسلم تصويراً بشعاً، يعيش بطبقاته المختلفة في مستنقع الفساد والرذيلة، ولا يوجد هناك مسلم صالح!
قيل في حينه إن بعض أتباع الكنيسة حاولوا أن ينقلوا إلى رئيسها الزعيم القوي «البابا شنودة» أخباراً مغلوطة عن المسلسل، لكن أهل الثقة أخبروه بالحقائق. فسألهم عن سر ّ غضب الغاضبين، فقالوا: إن وحيد حامد «زوّج» فتاة مسيحية إلى شاب مسلم وهذا ضد تعاليم الكنيسة، وانهالت الدعاوى القضائية من جانب أتباع الكنيسة، ووصلت إلى مكتب صفوت الشريف، وزير الإعلام حينئذ، 150 برقية عاجلة من بني سويف وحدها،مفادها «أوقفوا هذا المسلسل»، وفوجئ صناع المسلسل باستدعاء البابا شنودة للقائه، كما استدعى المعترضين، حيث انهى الموضوع وطوى الدعاوى القضائية بطريقة هادئة، لأنه أدرك أن المسلسل كان أكبر دعاية لمزاعم النصارى عن الاضطهاد والتمييز والتفرقة وعدم المساواة، إلى آخر سلسلة المزاعم التي يرددها المتطرفون النصارى وأبناء مدارس الأحد!
الأصولية الدينية!
أما مسلسل الجماعة، فقد خصصه لمهاجمة الحركة الإسلامية بأوامر من بعض الجهات النافذة، التي كان يتلقى منها التعليمات، وإن زعم أنه قرأ عشرات المراجع في تاريخها، ولكن المؤكد في كل الأحوال، أنه كان يهجو الإسلام بصفة أساسية وليس الإخوان!
يقولون عن وحيد حامد: عُرف بموقفه الرافض للأصولية الدينية، وأنه أحد أهم المعارضين لجماعة الإخوان المسلمين.
ليعارض جماعة الإخوان كما يحب، فهم بشر يتفق الناس معهم أو يختلفون، ولكن ماذا يقصد بالأصولية الدينية الإسلامية؟ إن الأصوليين في الإسلام أو علماء الأصول يمثلون مفخرة للمسلمين، لأنهم يُعْمِلون العقل والقياس وغيرهما، في فهم التشريع، وصياغة المفاهيم، ورسم الطريق للمسلمين.. أما الأصولية غير الإسلامية فشيء آخر تماماً، معادٍ للعقل والفكر والإنسانية، وهي موجودة في الغرب، ويسمونها اليمين الشعبوي، أو اليمين المتطرف، وهو يمين السلب والنهب والعنصرية والتعصب والعدوان على غير الصليبيين.
بصفة عامة، صار الإرهاب عنصراً فاعلاً في معظم المسلسلات والأفلام التي يكتبها وحيد حامد ورفاقه وتلامذته، وأضحي الإسلام إرهاباً، تجب محاربته ومقاومته في كل مكان!
إسلام على المقاس
جمع وحيد حامد مقالاته التي تفيض كراهية للإسلام والمسلمين، وتنشئ إسلاماً على مقاس السلطة، في كتابين أولهما بعنوان: استيقظوا أو موتوا، والآخر عنوانه: حديث الدخان.. في ظاهرهما دعوة لمكافة معوقات التقدم في بلادنا، وباطنهما التخلص من الإسلام العائق الأكبر للتقدم بمفهومه.. لا محل عند وحيد لعوائق من قبيل الاستبداد والقمع وحرمان المواطنين من المشاركة والمشاورة والمحاورة والكرامة وحق الاعتقاد بالإسلام، وقد كتب كتابات أخرى سافرة في هذا السياق، منها تساؤله العجيب الذي يردده الشيوعيون والعلمانيون والطائفيون: هل نحن دولة مدنية أو دينية؟ ونسي أننا دولة بلا كهنوت، ولا حرمان ولا غفران، ولا خطيئة يحملها الآخرون عن غيرهم. ولا أرواح تنتظر الخلاص على يد بشر مثلهم.. يتساءل وحيد: هل نحن دولة مدنية أم دولة دينية؟ حسبما تقول الأوراق (يقصد الدستور!).. فالنصوص التي تؤكد مدنية الدولة وحظر قيام الأحزاب الدينية هي والعدم سواء، فأصبح لدينا ستة أحزاب دينية أغلبها سلفية.. مطلوب أن تكون مصر الجامدة المتحجرة المتعصبة، وأيضًا الغبية التي تحمل رايات الجهل والتشدد والبدعة، وسرعان ما هبط عليها ما يسمى بالإسلام القبلى الصحراوى الرافض لإعمال العقل وكل تقدم وتطور.. فأهملنا بناء المدارس والمستشفيات ومراكز الأبحاث، وأغلقنا نوافذ الثقافة ومجالات الترفيه.. وصرنا نبني المساجد والزوايا لتكون المحل المختار لدعاة الانغلاق والتشدد والتصحر.. (المصري اليوم 16 مايو 2019م)
وهكذا تمضي مقالاته في المغالطات الرخيصة، وتعليق التخلف والتقهقر والجمود في رقبة الإسلام، دون أن يرى أسباباً أخرى! إنه لم يكتب عن العدو الصهيوني بمثل الكراهية التي كتب بها عن الإسلام، مع أنه كان مجنداً مثلي في الجيش بعد وكسة 1967م.
لقد ظل حانقاً على الإسلام والمسلمين، حتى لقي ربه وأفضى إلى ما قدم، يوم السبت 2 يناير 2021م = 18 من جمادى الأولى 1442 هـ، عن عمر ناهز 76 عاماً إثر أزمة قلبية.