انقضى شهر رمضان سريعا، فهل يمكننا أن نحول شهورنا لتكون كلها رمضانية، يزداد فيها السلام سلاما والأمان أمانا؛ فتصفو القلوب، وتأمن النفوس؛ فتزداد الألفة، وترتفع الكلفة. وتسكن القلوب والجوارح.. فلا شهوة ولا فحشاء، ولا غضب ولا شحناء.. بل صبر ويقين، وتعاطف وتوادّ، وعطاء وإيثار. لِمَ لا؟ فإن كان رمضان هو شهر القرآن، فالقرآن معنا كل الشهور، فيه الشفاء والرحمة، والنور والهدى، والفرح والاستبشار.. {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) التوبة 124.
سلام عمّ الأكوان
يقول الله عز وجل عن ليلة القدر {سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، فهي ليلة يظلها ويشملها السلام المستمر، والأمان الدائم، لكل مؤمن يحييها في طاعة الله تعالى إلى أن يطلع الفجر، وهي ذات سلامة، وهي سالمة من كل أذى وسوء لكل مؤمن ومؤمنة. ولكن هل ينتهي “السلام” بانتهائها؟ وما هي أسباب “السلام” الدائم للمؤمنين؟
أتي السلام في ليلة مباركة، سلام عم الأكوان من الله السلام المؤمن، سلام عليكم وعلينا، في ليلة القدر ذات الشرف والقدر والعظمة.
سلّمت فيها الملائكة على المطيعين، حيث نزلوا فوجا فوجا من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة السلام.
وصفت الليلة بأنها سلام، ثم يجب ألا نقلل من شأن هذا السلام، لأن سبعة من الملائكة سلموا على الخليل في قصة العجل الحنيذ، فازداد فرحه بذلك على فرحه بملك الدنيا، بل الخليل لما سلّم الملائكة عليه صارت نار نمرود عليه {بردا وسلاما}، وفيه إظهار فضل هذه الأمة، فإن هناك الملائكة، نزلوا على الخليل، وهاهنا نزلوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والليلة من أولها إلى مطلع الفجر سالمة في أن العبادة في كل واحد من أجزائها خير من ألف شهر (التفسير الكبير فخر الدين الرازي، بتصرف).
تثمر أزهار الصفاء والسلام من شجرة “لا إله إلا الله” التي تجمعنا، وهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء
سلام بالله السلام
ما دام ربنا هو السلام، فالسلام دائم لمن آمن به. فالله هو السلام، فهو مصدر السلام والأمن، وكل من ابتغى السلامة عند غيره -سبحانه- فلن يجدها، وهل يضر أحدٌ من سلَّمه الله؟! {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس: 107).
والسلام من معانيه أنه سبحانه هو الذي سلم الخلق من أن يظلمهم، فهو الذي تنزه عن الظلم، وهو الذي سلم من عذابه من لا يستحقه؛ أي سلم خلقه ممن لا يعصيه. وهو سبحانه الذي تسلَم ذاته عن العيب، وصفاته عن النقص، وأفعاله عن الشر… وكل عبد سلِم عن الغش والحقد والحسد، وإرادة الشر قلبُه، وسلمت عن الآثام والمحظورات جوارحُه، وسلم عن الانتكاس والانعكاس صفاتُه، فهو الذي يأتي الله تعالى بقلب سليم (المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى، أبو حامد الغزالي).
سلام بالقرآن
إن كانت ليلة القدر هي التي تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن، فهي ليلة السلام الذي أنزل فيها القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم بدأ نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان. قرآن من عند الله السلام يهدي إلى سبل السلام، {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15، 16). عن السدي في الطبري: أي سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام. وقال السعدي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا.
سلام بالأخلاق
المسلم يكون مصدرًا للسلام لكل من حوله: فينضم إلى قافلة عباد الرحمن الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان: 63)، ومعناه: سلام لا عداوة بيننا وبينكم ولا شر، بل اللين وخفض الجناح والرحمة والصفح والمغفرة، وقد عرَّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلم بأنه: “من سلم المسلمون من لسانه ويده” (البخاري)، ولما سئل -صلى الله عليه وسلم-: أي المسلمين خير؟ قال: “من سلم المسلمون من لسانه ويده” (رواه مسلم).
من معاني السلام أنه سبحانه سلم الخلق من أن يظلمهم فهو الذي تنزه عن الظلم وسلم من عذابه من لا يستحقه
سلام بإفشاء السلام
قال النبي صلى الله عليه وسلم “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” (مسلم).
يدلنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أفضل وأكمل الخصال المساعدة على التحاب في المجتمع المسلم، وهي إفشاء السلام بين المسلمين بإظهاره والعمل به؛ والسلام هو التحية التي شرعها الله تعالى لعباده، فلا يمر مسلم على مسلم -غريبا أو قريبا- إلا ألقى عليه السلام؛ فالله عز وجل جعل إفشاء السلام سببا للمحبة، وجعل المحبة سببا لكمال الإيمان؛ لأن إفشاء السلام سبب للتحاب والتواد، وهو سبب الألفة بين المسلمين المسبب لكمال الدين وإعلاء كلمة الإسلام، وفي التهاجر والتقاطع والشحناء التفرقة بين المسلمين.
وصيغة تلك التحية -كما عند أبي داود وغيره-: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
سلام بالتشهد
في تشهد الصلوات نقول “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”، يسلم المصلي على نفسه، وعلى جميع عباد الله الصالحين. ونأمل أن يرد الله سبحانه علينا سلاما وافيا بعدد عباده الصالحين.
ومن هنا ندرك أنه مع نشر ترانيم السلام على الآخرين، نتوقع في المقابل أن يلفنا نحن أيضا أريج الأمان والسلام؛ فليس من الإسلام إذن السلام علينا، وعلى غيرنا الحرب، أو الأمان علينا وعليهم الخوف، أو المسامحة لنا ولغيرنا المساءلة، أو العفو لنا والعقوبة عليهم. وإذا كانت كلمة “السلام عليكم” تعني الأمان والمسالمة وعدم الخوف مني على مالك وعرضك ودمك، فالسلام يقتضي السلام علينا أيضا! قل ذلك على مستوى الأفراد والزوجين والأسر، والمجتمعات والدول!
فالله عز وجل جعل إفشاء السلام سببا للمحبة، وجعل المحبة سببا لكمال الإيمان
هكذا ندعو لأنفسنا ولإخواننا بالسلام.. بالسلامة من كل شر. وهم كذلك يفعلون -في التشهد- فإن كنا “صالحين”.. فكم من كَمِّ الدعاء الذي لا ينتهي إلى يوم القيامة يصيبنا بالسلام والسلامة حين يدعو المصلون بعضهم لبعض؛ فالسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
سلام دائم
ويستمر السلام بالنهار والليل خلال الصلوات التي تشهدها الملائكة طوال العام.. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم، فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون” (صحيح البخاري).
وتثمر أزهار الصفاء والسلام من شجرة “لا إله إلا الله” التي تجمعنا، وهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.. نرويها في كل الشهور بماء الحب والسلام، والإيمان، والصلاة، والترتيل، والتسبيح، وقيام الليل، والدعاء، والزكاة، والحج والعمرة.. وصيام النافلة. وفي الصلوات نقول بصيغة الجمع “إياك نعبد وإياك نستعين” إعلانا للتوحيد والتوكل.. معا. ونقول “اهدنا الصراط المستقيم” دعاء للاهتداء والاستمساك والاستمرار على الحق.. معا.
لا مكان في رمضان ولا في غيره للتقاتل والتنافر ورفع السلاح، لا مكان في أمان رمضان ولا في غيره للتخاصم والتدابر، وهذه وصية نبينا صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” متفق عليه.
والسلام علينا وعلى إخواننا بالسلامة والأمن والأمان والطمأنينة والحب والولاء، والتقارب والتغاضي، والتفاهم.. {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}..
حينئذ نستحق السلام الدائم في دار السلام!