من المشاريع الفكرية العملاقة في القرآن الكريم مسألة التغيير، وهو من المصطلحات اللاَّمعة والمثيرة فيه، وهو من المفاهيم المركزية والمحورية له، التي وردت وفق نسَقٍ مفاهيميٍّ متكامل، كأحدِ أهمِّ المصادر المؤسِّسة للمعرفة والسُّلوك، ورغم التداول العُرفي لهذا المصطلح وفق الوضع اللُّغوي فإنّ السِّياق القرآني جعلَ له وَضْعاً شرعياً وواقعاً دلالياً، إذ لا معنى للبناء اللغوي في عالَم الأشياء إنْ لم يتحوَّل إلى بناءٍ شرعيٍّ وواقعيٍّ في عالم الأفكار والقيم والسُّلوك بتغيير ما بالأنفس والآفاق، مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرَّعد: 11).
فالقدرة على التغيير واجبٌ والتكاسل عنه إثمٌ، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف الذي يستنهض هِمَمَ التغيير والقيام بالواجب فيه: «ما مِن قومٍ يُعمَل فيهم بالمعاصي، يقْدِرون أن يغيِّروا فلا يغيِّرون إلاَّ أصابَهم الله بعقاب»؛ وهو ما يجعل من التغيير وظيفة الإنسان، وأنه بإرادة الإنسان، وأنَّ محوره وساحته هو الإنسان، وما إرادة الله تعالى في ذلك إلا سُنَّة متناغمة مع إرادة الإنسان في نفسه، وأنَّ السُّننَ ناتجةٌ عن فعل الإنسان في ممارسة أقصى طاقته الذِّهنية والعملية، وهو الأثر المتحقّق من جراء العمل، وأنَّ هذا الخطاب القرآني يؤكِّد على هذه الحقيقة الأزلية.
والآية نصٌّ على أنَّ هناك تغييرين؛ أحدهما من الله جل جلاله، والثاني من الإنسان، وأنَّ العلاقة بينهما هي علاقة سُننية سببية متلازمة كعلاقة المقدِّمة بالنتيجة، وهو ما يعني أنَّ هناك سُنناً شرعية متمثِّلة في الأسباب البشرية كمقدِّمات، وسُنناً كونية متمثِّلة في القدَر الإلهي كنتائج، وأنَّ التشريع الرَّباني جاء من أجل المطابقة بينهما حتى يحدث التغيير المنشود بتلازم السُّنن الشَّرعية مع السُّنن الكونية، مثل هذا الترتيب السُّنني المنهجي والمحكم في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (الأعراف: 96)، فمقدِّمة السُّنن الشرعية بالأخذ بالأسباب اختيار «الإيمان والتقوى»، يترتَّب عنها نتيجةٌ حتميةٌ بتدخُّل السُّنن الكونية والقدرة الإلهية استحقاقاً بالفتح عليهم من بركات السَّماء والأرض.
يرى مالك بن نبي (1905 – 1973م) أنَّ مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنظامٍ دوريٍّ وفق سنن وقوانين كونية واجتماعية وتاريخية، على اعتبار أنَّ التاريخ كتلةٌ من السنن والنواميس الإلهية لا بدَّ من استيعابها وتمثُّلها والانسجام معها، كما قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 62)، وأنَّ أيَّ حضارةٍ لا يُكتب لها الامتداد في الزمان والمكان والإنسان إلا إذا وقع لها هذا التوازن بين الكمِّ والكيف، وبين المادة والرُّوح، وبين السَّبب والنتيجة، وأنَّ هناك رسماً تخطيطياً تاريخياً لدورة الحضارة في شكلٍ تركيبي لها تتفاعل فيه العوالم الثلاثة؛ عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء، أو ما يطلق عليه البعض بالتفاعل بين إرادة الله وبين سُنَنِه، أو بين إبداع الإنسان وبين حرِّيته، أو بين الحوار الدؤوب بين الإنسان وبين الطبيعة.
مراحل الصعود الحضاري
وإذا أردنا أن نرصد المراحل التاريخية لصعود أو سقوط أيِّ حضارة فإننا نلخِّصها في المراحل التالية:
1- مرحلة الرُّوح: وهي مرحلة الإيمان بالفكرة والحماسة لها والجهاد في سبيلها، التي تبدأ نقطة الصفر فيها من «إنسان الفطرة»، كما قال تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الرُّوم: 30)، والدِّين القيم لا يلغي طبيعة الإنسان بكلِّ غرائزه، بل يخضعها لقِيَمٍ شَرْطية لا تقضي عليها بل تنظِّمها بما يساعده على أداء أدواره الحضارية وفقاً لقانون الرُّوح، فينتج لدينا إنسان العقيدة والفكرة والتضحية والفاعلية والعطاء والإنتاج والإنجاز.
2- مرحلة العقل: إذْ تظهر مع وصول الحضارة إلى ذروة الإشعاعات تحدِّياتٌ جديدةٌ نتيجةً لتوسُّعها، وضروراتٌ تجديديةٌ نتيجةً لاكتمالها، وتبدأ بالجنوح من الرُّوح إلى العقل لمعالجتها، وتبدأ الغرائز وثقافة الاستهلاك في التحرُّر التدريجي من سلطة الرُّوح ووازع الضمير، وهي مرحلة ضعف الإيمان وفتور الحماسة للفكرة، فيبدأ التوازن بين القيام بالواجب والمطالبة بالحق، وبين متطلَّبات الرُّوح واحتياجات الجسد، وبين الحقِّ في الدنيا والنصيب في الآخرة، وبين منطقية العقل وعاطفية القلب، وبين الامتياز الخاص والحقِّ العام، وبين الإنتاج والاستهلاك، فيحلُّ العدل مكان الإحسان.
3- مرحلة الغريزة: وهي مرحلة ما قبل سقوط الحضارة، عندما يتوقف الإنتاج ويتعطَّل الفِكر ويُغلق باب الاجتهاد ولا يُنتبه إلى ضرورة التجديد، وهي مرحلة ضعف الإيمان وسيطرة الغريزة وانتشار ثقافة الاستهلاك وتحرُّر الإنسان من القيم الرُّوحية والأخلاقية واستباحة كلِّ شيء؛ فتسيطر المادة على الرُّوح ويظهر إنسان الدنيا والغريزة والاستهلاك والإباحية، فينعدم العدل والإحسان معًا، وهو ما يلخِّصه الحديث النبوي الشَّريف في معرض الحديث عن السُّقوط الحضاري بتداعِي الأمم علينا: «.. قيل: أومِنْ قلَّتنا يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل (عدم التوازن بين الكمِّ والنّوع)، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن»، فقيل: وما الوَهْن يا رسول الله؟ قال: «حبُّ الدُّنيا (ظهور إنسان الدنيا والغريزة والاستهلاك) وكراهية الموت (غياب إنسان العقيدة والتضحية)».
حتمية الاستئناف الحضاري
لا يمكن التصديق في حقِّ الحضارة الإسلامية بالخروج الكلِّي لها من الدورة الحضارية نهائياً، والخلود في مرحلة ما بعد الحضارة، إذ إنَّ المسار التاريخي للحضارة يبدأ بالفكرة والقيم، ثم بالكيان السياسي المصغَّر لها وهو الدولة، ثم بالمنتج الذي يجسِّد النَّهضة وامتداده في الزمان والمكان والإنسان وهو الحضارة، وأنَّ سقوط الحضارة الإسلامية ثم الدولة الإسلامية (سقوط الخلافة رسميًّا عام 1924م) لا يعني السُّقوط الكلِّي لكلِّ عناصرها، بسبب بقاء الفكرة الإسلامية على مستوى الفرد والمجتمع، رغم المحاولات الضَّارية للحركة الاستدمارية والاستشراقية التي اجتاحت العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث للقضاء عليها عبر المسخ الثقافي ومحاولات تدجين الهوية وعناصر الانتماء كالدِّين واللغة والتاريخ والتقاليد.
ولا تزال الأمَّة تمتلك عناصر الإمْكان السُّنني للتغيير والاستئناف الحضاري للإسلام، إذ تمتلك رصيد التجربة الإنسانية والتاريخية المتمثِّلةِ في النُّبوَّة الخاتمة، وتمتلك صحَّة النّص السَّماوي المحفوظ والمستوعِب للأفكار والقيم، وتمتلك العقيدة الصحيحة عن الله والكون والإنسان والحياة، وتمتلك الأنموذج التطبيقي العملي والتجربة الإسلامية الواقعية السابقة للسَّلف الصالح، وتمتلك امتداد هذا الأنموذج وتمثُّله عبر الزَّمان والمكان، وفق الحقيقة النَّصية: «لا تزال طائفة من أمتي..».