أخذ الأستاذ “خميس” طلابه الصغار في بداية المرحلة الإعدادية (المتوسطة) إلى معمل العلوم، ووقف بجسده النحيل وقامته القصيرة وحركاته العصبية، يشرح لهم بكل ثقة التجربة التي سيضيف لها مركَّب كذا على مركب كذا، وسينتج عنه بخار لونه أحمر.
شَخَصَت أبصار الطلاب الصغار نحو معلمهم الساحر العجيب الذي سيخرج من القنينة الشيطان الأحمر.
بدأت التجربة: وقف الأستاذ يصبُ المركبين في الوعاء، شَخَصَت أبصار الطلاب الصغار نحو معلمهم الساحر العجيب، يترقب الطلاب بعيون مفتوحة الدخان الأحمر الموعود، ينطلق الدخان مصحوبا بالبخار، ولكن تحدث المفاجأة: الدخان لونه أزرق!
الأستاذ “خميس” وقف ينظر إلى الدخان الأزرق باندهاش، ويصمت بُرهة، ثم يصوب نظره إلى الطلاب بنظرة يتطاير منها الشرر ويقول:
مثل ما قلت لكم بالضبط.. اللون الأحمر!
تنعقد ألسنة الطلاب، ويسود الصمت.. يخرق صوت الأستاذ حاجز الصمت.. يرفع عصاه صائحاً: لماذا لا تنطقون؟ هل خرست ألسنتكم؟ ألا تشاهدون اللون الأحمر؟!
فيصيح معظم التلاميذ: أحمر.. أحمر.. يا أستاذ!
وبينما جمهرة الطلاب تصيح: أحمر.. أحمر .
يقف تلميذ ويقول للأستاذ: قرأت في ديوان “أبي العلاء المعري”
تَلَوْا باطِلاً، وجلَوْا صارِماً *** وقالوا: صدَقنا! فقلنا: نعَم!
رد عليه الأستاذ: وما علاقة هذا بموضوعنا يا خفيف يا ظريف؟!
قال له: يعني “المعري” يقصد:
جلوا صارما وقالوا أحمراً وقالوا صدقنا؟ فقلنا: نعم!
فرد الأستاذ: “تصدق إنك ولد عبيط، ما تقول مع زملائك من الأول إنه أحمر، لازم تلف وتدور وتقول لي المِعَري والمِغَطي!“
قام تلميذ آخر وقال: يا أستاذ، هذا الولد قصده يُذَكِرك بمشهد “توفيق الدقن” وهو يضرب “عبد المنعم إبراهيم” وهو يقول له: العلبة فيها فيل.. فيها إيه؟.. فيل.!
قال له: “تصدق إنك ولد غبي.. ما صلة العلم والتجارب العلمية الدقيقة والإنجازات العلمية التي أقدمها لكم بالفيل.. والمنديل.. والهبل بتاعك؟“
قام تلميذ آخر بكل جدية وقال: أنا قرأت كتاب “آثرت الحرية” لـ”فيكتور كرافيتشينكو” الشيوعي الروسي الهارب من نظام “ستالين” حيث قال منتقداً ديكتاتورية هذه الحقبة: “كنت بصفتي عضواً بارزاً في الحزب الشيوعي ألقي محاضرات، وكنت أردد فيها الأكاذيب، وكان السامعون يَعْلَمُونَ أنني كاذب، وبرغم ذلك كانوا يصفقون لي؛ فأنا وهم كنا نتقبل إهانة تمثيل أدوارنا المقررة في هذه المهزلة السياسية”.
ضحك الأستاذ خميس وقاله: “تصدق.. إنك ولد ذكي.. ذكرت الشيوعية بمناسبة اللون الأحمر الذي رأيته.. صح؟.. هههههه”.
قام تلميذ آخر وقال: “علامَ تضحك يا أستاذ، إن الله مالك الملك لم يفرض دينه على خلقه وقال: {لا إكراه في الدين}؛ لأن الإكراه ينبت النفاق”.
رد الأستاذ “خميس”: “تصدق إنك أغبى ولد في الصف، ما دخل الدين بالعلم والمعامل والاختراعات التي أعلمها لكم؟!“
ثم رفع عصاه وقال: “لن أسمح لأحد بعد ذلك بالكلام، ولن أريكم إلا ما أرى”.
صمت الجميع في جو من الرهبة، وتهامس البعض:
“التجربة فشلت، والنتيجة زرقا.. والله زرقا”.
فقام جمهرة من الطلاب يصيحون: “حمرا .. حمرا”.
ووسط صيحات: “حمرا.. حمرا”، شعر الأستاذ “خميس” بالنشوة ولوَّحَ بعصاه، ورفع أحد الطلبة علماً أحمر، وأخرج غيره طبلة وزمارة، ورفعوا الأستاذ “خميس” على الأعناق وهم يهتفون:
أستاذ “خميس” خط أحمر.. ولون بخاره لون أحمر
أستاذ “خميس” ياكايدهم .. لونك الأحمر مشعللهم
وانتشر الدخان الأزرق.. وأَظلمَ المكان.. وأُسدِل السِتار على المهزلة.!