برزت في الأيام الأخيرة ظاهرة مُحيرة في بلد ديمقراطي ويؤمن بالحرية والعلمانية، ألا وهي حرق القرآن الكريم في عدة مناطق وأمام التجمعات الإسلامية بشكل مُبهم واستفزازي يدعو للغرابة، وهذا البلد هو السويد الذي يتغنى الجميع به وبمستواه الثقافي والاجتماعي.
ولا يقود هذه الحركة غوغاء من العامة، بل سياسي مُتعلم خريج جامعة كوبنهاجن اسمه “راسموس بالودان”، وقد أدت هذه التصرفات إلى قيام اضطرابات بين الشرطة والجالية الإسلامية هناك، ذهب ضحيتها بعض الجرحى وإحراق بعض الممتلكات وسيارات الشرطة!
والغريب في الموضوع أن هذه المشكلة متزامنة مع حدثين عالميين يحتلان شاشات الأخبار والصحافة، وهما الحرب الروسية – الأوكرانية التي بلغت فيها الدماء للرُكب، والآخر هو اقتحام المتطرفين الصهاينة لباحات المسجد الأقصى والاعتداء على المصلين فيه بالضرب في أيام رمضان الكريم.
إن مسألة تأثير الحرب على مشاعر الجهات المتطرفة من اليمينيين السويديين لا أثر لها، كونها تحدث بين بلدين يدينان بالمسيحية الأرثوذكسية، ولا علاقة للقرآن بمعتقداتهم.
أما الحدث الثاني الذي نعتقد بوجود ارتباط له مع ظاهرة حرق القرآن فهو المعتقد الديني الغالب لدى أهل السويد.
فمن المعلوم أن السويد دولة إسكندنافية مزدهرة، ومعدل المعيشة فيها مرتفع جداً، ولا يشكل المسلمون فيها إلا أقلية، تبلغ حوالي 1.6%، ومعظم السكان لا دينيين (ملحدون)، حيث تبلغ نسبتهم حوالي 55.4%، وأما المسيحية فتبلغ حوالي 41.2%.
ويشكل المذهب الإنجيلي (اللوثري – البروتستانتي) حوالي 90% من مجمل الطوائف المسيحية، ولا يحضر القداس كل أسبوع إلا حوالي 2%.
والمكون المسيحي في تناقص مستمر نتيجة ازدياد الإلحاد والهجرة وقلة الإنجاب، ولهذا المذهب (المسيحية الإنجيلية) منظمات شديدة التطرف بما يتعلق بحماية “إسرائيل” وتشجيع الهجرة إليها؛ لأن المسيح، حسب اعتقادهم، عند رجوعه قبل القيامة سينزل في أورشليم (القدس)، وسيتبعه اليهود ويتحولون إلى المسيحية، ثم يأخذهم معه إلى ملكوته السماوي، والمضحك المبكي في الأمر أن اليهود عموماً لا يعترفون بعيسى المسيح عليه السلام، ولا برجوعه الأخروي؛ لأن لهم مسيحهم الخاص بهم من نسل داود عليه السلام الذي سيؤسس مملكته الخاصة به على بحر من الدماء، ولكنهم الآن يستغلون الهوس الفكري للإنجيليين على أتم وجه على أساس أنها مشيئة الله، ولا يعلمون أن المتطرفين اليهود يعملون على مبدأ ما جاء في التوراة بقول ينسبونه لموسى عليه السلام: “الآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، واقتلوا كل امرأة ضاجعت رجلاً، ولكن استحيوا لكم عذراء لم تضاجع رجلاً” (17-18، العدد 31).
وللمسيحيين الإنجيليين مؤسساتهم الضخمة والمنظمة في تقديم الدعم المادي والمعنوي لـ”إسرائيل” خصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا، ويشيعون الكراهية ضد العرب والمسلمين بشكل سافر، هذه المؤسسات لها اتصالات وثيقة مع مثيلاتها في كل الدول، وخصوصاً الدول الإسكندنافية.
إن حرق القرآن المتزامن مع الاعتداءات الصهيونية أمر له مغزى عميق وليس صدفة كما يعتقد البعض، وهو عمل يعطي للفرد الأوروبي والأمريكي اعتقاداً بأن أهل فلسطين مجرد إرهابيين ولا غير، يقفون بوجه إرادة الرب استناداً لكتابهم المقدس وهو القرآن.
ولكن الحقيقة أن ما يحدث، كما قال الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إرهاب بربري متوحش بكل المقاييس، وهو انعكاس لعنصرية بغيضة تترفع عنها كل الحضارات الإنسانية، وهي جرائم تؤجج مشاعر الكراهية وتقوض أمن المجتمعات.
ولهذه المؤسسات أذرع أخطبوطية في الدنمارك وألمانيا، بينما في بقية البلدان الغربية هناك سيناريو آخر لتأييد الصهاينة في انتهاكاتهم المستمرة لحرمة المسجد الأقصى على أساس بنائه على أنقاض الهيكل، وهو مجرد خيال.
ففي الحروب الصليبية حَوّل الصليبيون المسجد الأقصى إلى إسطبل للخيل، بينما امتنع صلاح الدين الأيوبي عند استرجاعه للقدس (583هـ)، التعامل بالمثل، ولم يسمح بإهانة المقدسات المسيحية.
فقد جاء في الخطبة التي ألقاها الشيخ محيي الدين بن الزكي الذي كان مرافقاً لصلاح الدين عند استرجاع بيت المقدس، وفي أول خطبة له في المسجد الأقصى: “فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد وقبلتكم التي كنتم تُصلون إليها من ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء، ومقر الرسل، وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء المقربين، وهو أول القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال”.
القصة لن تنتهي كما يشاؤون؛ لأن إرادة الله فوق ما يمكرون ويخططون له.