نشرت صحيفة “أوبزيرفر” تقريرا أعده سايمون تيسدال بعنوان “القيامة الآن؟ الآثار المثيرة للقلق لأزمة الغذاء العالمي”. وقال إن كلمة “قيامة” كلمة مخيفة لأنها تعبر عن كارثة مدمرة تسبق نهاية العالم. لكن أصل الكلمة الإغريقي يعني “الكشف أو الوحي” أو “رفع الغطاء عن شيء” بحسب القدس العربي.
والمعنى الأخير هو ما عناه حاكم المصرف الإنكليزي أندرو بيلي في الأسبوع الماضي، وإن بطريقة غير مقصودة، عندما اقترح أن بريطانيا تواجه مستوى “قياميا” في تضخم أسعار الطعام. وأرغى وزراء حكومة المحافظين وأزبدوا واعتبروا كلامه نقدا لسياسة حكومتهم في إدارة الاقتصاد.
وفي الحقيقة كان بيلي يتحدث عن صدمة حرب أوكرانيا على زيادة أسعار الغذاء ونقصه لدى المجتمعات الفقيرة. وقال “هناك قلق كبير في أسعار الطعام في الدول النامية وكذا، أعتذر للقول إنها لحظة قيامية، وهذا مصدر قلق عظيم”. وفي الوقت الذي ركز فيه الإعلام والساسة وبشكل ضيق على زيادة “كلفة المعيشة”، فإن تعليقات بيلي جاءت في وقتها وكاشفة. فبعد أشهر من التحذير الذي تم تجاهله، وأقله من قطع الدعم الإنساني، فكلفة المعيشة هي مشكلة بريطانية، لكن لمنظمات الإغاثة الإنسانية التابعة للأمم المتحدة حول العالم فالقلق هو كلفة الموت.
وعبر أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه وقال إن الحرب في أوكرانيا “ستدفع ملايين الناس إلى حافة غياب الأمن الغذائي” و”النتيجة ستكون سوء التغذية والمجاعة والجوع في أزمة قد تستمر لسنوات” وتزيد من فرص الركود العالمي.
وقدر برنامج الغذاء العالمي عدد الأشخاص الذين قد يواجهون مستويات عاجلة من الجوع بحوالي 49 مليون شخص. وهناك 811 مليون شخص يذهبون للنوم بمعدة خاوية. كما أن عدد الأشخاص الذين يواجهون الجوع في أفريقيا ومنطقة الساحل مثلا زاد عشرة أضعاف عن مرحلة ما قبل كوفيد-19.
ويرى الكاتب أن الأثر الخطير للغزو الروسي لأوكرانيا وما سببه من نقص الطعام وزيادة أسعار المواد الأساسية مثل الذرة والقمح والشعير وزيت عباد الشمس كان كبيرا، نظرا لإنتاج كل من روسيا وأوكرانيا نسبة 30% من الإنتاج العالمي. وسينخفض إنتاج أوكرانيا من القمح هذا العام بنسبة 35% ومن الصعب تصدير معظمه بسبب حصار روسيا للبحر الأسود.
وحسب منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة فقد زادت أسعار البضائع على المستوى العالمي في شهر آذار/ مارس بمعدلات قياسية. وزادت الحرب الروسية أو فاقمت من مشاكل نقص الطعام وتوجهات التضخم النابعة من عدة عوامل- الأثر السلبي للوباء على الاقتصاد، عمليات التوظيف في سلاسل التوريد والنقل، الظروف الجوية القاسية والتغيرات المناخية، زيادة كلفة الطاقة وعوامل أخرى. فالدول ذات الدخل المتوسط مثل مصر والبرازيل وجدت نفسها في وضع سيئ للتعامل مع أزمة الأمن الغذائي المتزايد، كما قالت مؤسسة الاستشارات الدولية فريسك مابلكروفت في تقريرها الأسبوع الماضي.
واستنفدت الكثير من الحكومات مصادرها واحتياطاتها في مكافحة كوفيد وتكبدت ديونا كبيرة. وتواجه الأرجنتين وباكستان والفلبين وتونس التي تعتمد على استيراد الطاقة والطعام وهي من بين دول أخرى ذات الداخل المتوسط أو المتدني التي تواجه مخاطر اضطرابات اجتماعية في نهاية عام 2022، كما اقترحت الشركة في تقريرها. ومع اقتراب قيامة الطعام، فسيعاني الفقراء كما هو حالهم، أما الأغنياء فمحصنون، لكن لمدى معين، وهناك مخاوف من تصاعد الألم لكي يصيب سلسلة الطعام العالمية، ومعه ستحدث اضطرابات سياسية وأزمات إنسانية وعدم استقرار وتنافس جيو- استراتيجي في العالم الجائع.
وقال إن ندرة الطعام وزيادة الأسعار وانقطاع التيار الكهربائي ونقص البترول وغاز الطبخ والدواء أدى إلى أزمة سياسية في سريلانكا هذا الربيع والتي قد تكون مثالا غير مريح للدول التي تواجه مشاكل مشابهة. وبعد أشهر من التظاهرات، أجبر رئيس الوزراء ماهيندا رجابسكا على الاستقالة، ولم يوقف هذا التحرك الاحتجاجات. واضطرت سريلانكا للتخلف عن دفع الدين ولأول مرة في تاريخها.
وترك التضخم المزدوج باكستان بدون قدرات لتوفير الحاجيات الأساسية، وكان سببا وراء خروج عمران خان، رئيس الوزراء من السلطة. وخلقت محاولاته التمسك بالسلطة أزمة للديمقراطية لا يزال البلد يعاني من تبعاتها. وأدت أزمة الحكم الاستبدادي والفساد والعقم في القيادة والاستقطاب إلى الاضطرابات في البلدين. كما أن نقص الغذاء والتضخم جعل ما هو مرفوض لا يحتمل.
وهو المنظور الذي يواجه الأنظمة غير الشعبية من بيرو إلى الفلبين ولبنان وتونس. ويقارن المحللون ما يجري اليوم بالربيع العربي عام 2011، والثورات التي اندلعت في مصر التي تعد أكبر مستورد للقمح في العالم. ويعتمد 70 مليون نسمة على الخبز المدعم. وتعد روسيا وأوكرانيا المصدر الأكبر لمصر حيث تصل نسبة ما تستورده مصر منهما 80%. وربما أدى ارتفاع الأسعار والنقص في الإمدادات، لو ساءت، إلى مواجهة عبد الفتاح السيسي ما واجه حسني مبارك عام 2011.
وهناك دولة أخرى يجب مراقبتها وهي إيران، فقد اندلعت الاحتجاجات العنيفة في خوزستان بعدما قررت الحكومة رفع سعر الخبز وزيت الطعام ومنتجات الألبان. وزاد من سوء الأوضاع العقوبات الأمريكية والحكم الديكتاتوري. ولو استمر الوضع على ما هو فلربما انفجر الوضع كما في عامي 2017- 2018.
وبالإضافة للاضطرابات السياسية، هناك مخاوف من استمرار غياب الأمن الغذائي في مناطق من العالم، مثل أفريقيا، والتي تواجه أصلا المجاعات التي تفاقمها النزاعات المحلية والتغيرات المناخية. وتضاعف عدد الذين هم بحاجة للمساعدات الغذائية منذ عام 2016، حسب الشبكة الدولية ضد أزمة الطعام، وهو مشروع مشترك بين الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وزاد مستوى الأزمة العام الماضي إلى 20 مليون نسمة أي بنسبة 20%.
وفي تقرير الشبكة الأخير أكد على قلق من الأوضاع في إثيوبيا وجنوب السودان ومدغشقر واليمن حيث يواجه حوالي 570.000 شخص -بزيادة 571% عن ستة أعوام سابقة- مرحلة “كارثية” من غياب الأمن الغذائي.
وحذر غويتريش الرئيس فلاديمير بوتين من أثر الحرب على جهود مكافحة الجوع في أفريقيا وضرورة عودة الحبوب الأوكرانية والأسمدة من روسيا وبيلاروسيا إلى الأسواق العالمية. وكما أكد الإعلام الروسي، فالعقوبات الغربية أضافت إلى تقلب الأسعار العالمية.
ودعت الأمم المتحدة لإعادة فتح موانئ البحر الأسود وبحر أزوف كي يستأنف تصدير القمح، وليس فقط لأفريقيا. وقال ديفيد بيزلي، مدير برنامج الغذاء العالمي بعد زيارة لدول الساحل “هناك أزمة تجري أمام أعيننا” و”ينفد المال لدينا أما هؤلاء الناس فيفقدون الأمل”. وهذا لأن نقل المساعدات زادت كلفتها، وأجبرت وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة على دفع رسوم مبالغ فيها بنسبة 30% لكي توفر المساعدات للمحتاجين.
ولأن أسعار المواد الغذائية زادت كلفتها بالنسبة للدخل، ففي بريطانيا ينفق المواطن العادي نسبة 10% من دخله على الطعام، مقارنة مع باكستان وكينيا التي ينفق فيها المواطن 40% من دخله على المواد الأساسية. ويزيد من أزمة العالم وكوارثه النزاعات المحلية بين الجهاديين والحكومات المحلية في مالي ونيجيريا وجنوب الفلبين، والإقليمية في اليمن وليبيا. وتقدر الأمم المتحدة نسبة 60% من سكان العالم الجائع يعيشون في مناطق الحروب.
وتقدم الحرب الأهلية في سوريا مثالا تحذيريا، فقد كانت بلدا مزدهرا ينتج كل ما يريده من الطعام قبل الحرب إلا أن نسبة 60% أي حوالي 12.6 مليون نسمة يعانون من غياب الأمن الغذائي. وزاد الرقم ضعفين منذ عام 2019. وكذا إثيوبيا التي شهدت حربا بين الحكومة المركزية ومتمردي تيغراي. وبالمقارنة لم تكن دولة جنوب السودان قادرة على توفير الطعام لنفسها منذ استقلالها عام 2011.
وزادت مأساة الأفغان من سيئ إلى أسوأ وبخاصة بعد خروج قوات الناتو والقوات الأمريكية منها العام الماضي. ولم تنفع مليارات الدولارات التي ضخت في البلد. وتقدر منظمة “سيف ذا تشيلدرن” أن هناك 9.6 مليون طفل يواجهون الجوع.
ويضاف إلى كل هذه الأزمات، التغيرات المناخية، ولم يعد ما يثير الجدل لو تم ربط دمار المحاصيل وخسارة المعيشة وفقر المجتمعات بالتغيرات المناخية والظروف الجوية القاسية. لكن لا يوجد هناك أي تحرك دولي قوي يعمل على تغيير الدينامية هذه. وتعاني دول القرن الأفريقي، تحديدا الصومال من أزمات تصحر ومجاعات منذ 40 عاما. وعندما جاء المطر أخيرا، كما ذكرت مجلة “فورين بوليسي” كان عنيفا وحمل معه الفيضانات وأدى إلى موجات من الجراد.
وقيل إن حوالي 3 ملايين من المواشي نفقت في جنوب إثيوبيا وأجزاء من كينيا العام الماضي. وقالت الأمم المتحدة إن حوالي 20 مليونا في المنطقة قد يعانون من الجوع، وفاقمت أزمتهم الحرب في أوكرانيا.
وعندما قامت “كريستيان إيد” باستطلاع لمعرفة موقف الرأي العام في بريطانيا من مأزق دول القرن الأفريقي وجدت أن 33% من المشاركين يعرفون بالمشكلة مقابل 90% يعرفون بغزو بوتين لأوكرانيا.
وكشف الوضع في الهند ما ينجم عن غياب التعاون الدولي لمكافحة التغيرات المناخية، فقد شهدت معدلات حرارة عالية أدت لقتل المحاصيل، وهو ما قاد الحكومة لتعليق تصدير القمح. وبدلا من مساعدة الهند التي تعد المنتج الثاني للقمح في العالم، لتعويض النقص من أوكرانيا وروسيا، فعلت حكومة ناريندرا مودي العكس. وفي النهاية، وعندما يكتب التاريخ، فسيكشف عن خطأ استخدام روسيا الطعام كسلاح وغزو جارة بدون مبرر على أنه أكبر جريمة. وربما ستظل روسيا منتجا مهما للطاقة والحبوب في العالم حتى بعد نهاية النظام الحالي في موسكو، لكن موقف روسيا وتأثيرها قد تراجع بشكل كبير.
كل هذا بسبب فشل بوتين الاعتراف بأن عهد التوسع السوفييتي قد انتهى وأن روسيا تعيش في عالم مترابط يعتمد على بعضه البعض ومسؤول بشكل متبادل ويقوم على القواعد والحقوق والقوانين.