تفكر الحكومة المغربية في إصلاح نظام التقاعد من جديد في ظل الحديث عن قرب نفاذ مخزون صناديقه بل وإفلاسها، مما يثير تخوف بل غضب الموظفين والمستخدمين، زاد من حدته ما عرفه الإصلاح المقياسي سنة 2016 الذي قام على الاقتطاع من الأجرة وتقليص المعاشات ورفع سن التقاعد.
ولم يعد هذا التخوف مبنياً على إشاعات كما قيل سابقاً، إذ إن الوزيرة المغربية في الاقتصاد والمالية نادية فتاح العلوي أبرزت، في حديث أمام مجلس المستشارين، أن هناك تفاوتاً في ملف التقاعد، وأن ظروف المتقاعدين صعبة، مشيرة إلى أن الحكومة تتفهم قلق المغاربة، وأنها عازمة على إصلاح صناديق التقاعد كلها، وفي الوقت نفسه، ليست على المدى القصير ولكن إلى أبعد مدى.
وتؤكد الوزيرة أن احتياطيات صناديق التقاعد ستنفد ما بين عامس 2028 و2044، بعد أن بدأ اهتزاز توازناتها المالية عام 2015، ويتوقع أن تبلغ ذروتها عام 2023.
ويشدد خبراء ومهتمون، في حديث لـ”المجتمع”، على ضرورة وحتمية الإصلاح وعدم تأخيره، غير أنهم يتساءلون عن مدى قدرة الحكومة على احترام آليات الديمقراطية التشاركية والحرص على الإجماع الوطني في تحديد النموذج الأمثل لإصلاح أنظمة التقاعد، ومن يتحمل كلفة هذا الإصلاح، وقدرة جميع الأطراف المعنية على الوفاء بالتزاماتهم.
واقع صعب
يوجد في المغرب 4 صناديق تقاعد مشتتة مجزئة وبأنظمة تختلف بعضها عن بعض من حيث الوضع القانوني وطريقة التدبير والموارد وطرق تقديم الخدمات، كما يشرح لـ”المجتمع” المتخصص في الشؤون العمالية علي لطفي، مؤكداً أن التقارير الصادرة عن مؤسسات دستورية تقف كلها عند عجز موازناتي لصناديق التقاعد والمعاشات المدنية على المدى القريب والمتوسط.
ويرى حسن المرضي، الخبير في مجال الحماية الاجتماعية، في حديث لـ”المجتمع”، أن هذه الصناديق عانت سوء تسيير وتبذير لأموال المنخرطين من طرف المسؤولين على تدبير بعض صناديق التقاعد، مما يدعو مؤسسات الرقابة المالية إلى الوقوف على هذه الاختلالات، وتحمل الحكومة مسؤولياتها في مراقبة وتتبع تدبير وتسيير هذه الصناديق.
فيما يشير المسؤول النقابي محمد بوزكيري لـ”المجتمع” إلى أن جميع هذه الصناديق ليست في نفس مستوى المدخرات وحصص المساهمات وليست جميعها تتجه نحو الإفلاس.
ويضيف أن الصندوق المغربي للتقاعد الذي يخص المنخرطين بالقطاع العام وشبه العام والجماعات الترابية والمؤسسات العامة، عرف العديد من الانتكاسات لم يكن المنخرط يوماً سبباً فيها بل بالمقابل كان هو من يتحمل تبعاتها، كان آخرها إصلاح 2016 الذي تسبب لأول مرة في تاريخ الوظيفة العمومية بالمغرب بنقص أجور الموظفين بعد زيادة مساهماتهم بـ4 نقط، ورهن مستقبلهم بعد إحالتهم على المعاش، وتبعه نقص في عدد المنخرطين وعدم تعويض المحالين على التقاعد، في حين أن النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد، فيجب التدقيق في الأرقام لأن تعريفة وطريق احتساب المعاش علمياً يجب أن يكون بعيداً كل البعد عن الإفلاس.
تعامل الحكومة
تعاملت الحكومات المتعاقبة مع ملف إصلاح أنظمة التقاعد الحالية بمنطق اختزالي ومقاربة محاسبية مقايسية صرفة لربح بعض السنوات كانت نتائجها محدودة، بحسب علي لطفي، الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للشغل.
ويضيف أن الإرادة السياسية والجرأة لدى صناع القرار السياسي غابت في إصلاح شامل لمنظومة التقاعد بالرغم من تقارير المؤسسات الدستورية التي أكدت كلها ضرورة مأسسة منظومة وطنية موحدة عادلة للمعاشات لكن الحكومات فضلت الاستمرار في تحميل عبء الإصلاح من جيوب الموظفين والأجراء.
ويتفق محمد بوزكيري مع أن الإصلاحات المتتالية والقرارات الارتجالية في مجال الوظيفة العمومية مثل المغادرة الطوعية، كانت نتائجها عكسية على الدولة والصندوق والمنخرط والمتقاعد، وبالتالي فإذا كانت الحكومة الحالية عازمة على الإصلاح الشمولي، فيجب الإلمام بجميع الجوانب التقنية والمالية وعدم الاعتماد على أرقام ودراسات من مصدر واحد، كما يجب عليها الرجوع إلى التقارير والدراسات الموضوعية.
وتقول الوزيرة نادية العلوي: إن الإصلاح المقياسي للمعاشات المدنية الذي تم في عام 2016 لم يكن كافياً للإصلاح، موضحة أنه تم الاشتغال حالياً على دراسة تقنية مكنت من التوفر على تصور ورؤية للجوانب التقنية لمنظومة القطبين الخاص والعام، وخاصة ما يتعلق بالهيكلة والسيناريوهات الممكن الاعتماد عليها.
وتشير الوزيرة أيضاً إلى أن أهم شيء هو مناقشة الموضوع مع الشركاء، لأن الملف صعب ويتطلب اشتغال الجميع، وهناك واقع يتطلب التعجيل بالملف، حيث كل المغاربة ينتظرون الحلول.
تأثير قاس
وعن تأثير الإصلاح الحكومي على فئات واسعة من الموظفين والمستخدمين في المغرب وخاصة الفئات الهشة، يؤكد عضو المجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد محمد بوزكيري أن وضعية المنخرطين والمتقاعدين المعتمدين فقط على مداخيل المعاش فقط ستكون كارثية، وفي ظل موجة الغلاء سيدخلون دائرة الفقر والهشاشة بعدما قضوا زهرة عمرهم في العمل والإنتاج من أجل الصالح العام.
ويشير المسؤول النقابي علي لطفي إلى أن الأغلبية الساحقة من المأجورين لا تتوفر على معاش كريم وعادل، بل إن نسبة كبيرة من الفئات الهشة من العمال والعاملات بالقطاع الخاص سواء في القطاع الصناعي أو الخدماتي أو الفلاحي لا يتم تسجيلها في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبالتالي لا تستفيد من معاش التقاعد، هذا فضلاً عن العاملين في الاقتصاد غير المنظم.
ويؤكد الخبير حسن المرضي أن الوضعية الاجتماعية الصعبة التي نعيشها اليوم جراء ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، تُسائلنا جميعا عن وجوب إعادة النظر في الحد الأدنى للمعاش، بالزيادة فيه، لأننا أصبحنا نرى فئات من المتقاعدين وذوي الحقوق من الآباء، الأمهات، الأرامل واليتامى تضاف إلى الصفوف العريضة للفقراء، كما أنه في إطار الإصلاح الشامل لمنظومة الحماية الاجتماعية وبالأخص التقاعد، يجب إحداث حد أدنى للدخل في سن الشيخوخة لا يقل عن عتبة الفقر لفائدة الأشخاص الذين لا يتوفرون على معاش.
مداخل الإصلاح
يرى النقابي علي لطفي أن على الحكومة المغربية الالتزام بتنفيذ إصلاح هيكلي شمولي لبناء منظومة وطنية للمعاشات، تقوم على قاعدة التوزيع، وتشمل جميع الأشخاص النشيطين العاملين بالقطاعين العام والخاص وغير الأجراء من المهنيين المستقلين بسقف اشتراكات وحد أدنى للمعاش مطابق للحد الأدنى للأجر، مع إلغاء الضريبة على المعاش، والرفع من معاشات المتقاعدين السابقين، ضحايا الإصلاحات السابقة، والزيادة في معاشات التقاعد كلما كانت هناك زيادة في الأجور على غرار جميع دول المعمور، وإعادة النظر في مقاربات التدبير والتسيير لتكريس الحكامة الرشيدة والشفافية المالية لمنظومة التقاعد بمراجعة توظيف الأموال المتأنية للاحتياطات بفوائد أفضل وتشجيع استثمار أموال المنظومة، بتدبير المخاطر واستهداف خلق مناصب الشغل للشباب العاطل بدل الرفع من سن الإحالة على التقاعد إلى 65 سنة.
فيما يوضح الأكاديمي حسن المرضي أن كل إصلاح الغاية منه التراجع عن الحقوق المكتسبة للمنخرطين بأنظمة التقاعد، هو ضرب لقدرتهم الشرائية واستقرارهم الاجتماعي، لأنه بالإمكان تجاوز أزمة صناديق القاعد، بتعزيز آليات الحكامة والقيادة الفعالة والمراقبة والتتبع والشفافية ومحاربة الفساد، واسترجاع المستحقات التي في ذمة الدولة بالنسبة للصندوق المغربي للتقاعد، والعمل على إقرار حصة المشغل التي تساوي في جميع الأنظمة ضعف مساهمة الموظف، وتشجيع الاستثمار لخلق مناصب الشغل، والزيادة في المناصب المالية برسم الميزانية السنوية المخصصة للإدارات العمومية، وتعميم انخراط العاملين غير الأجراء في نظام التقاعد، وتحفيز انخراط النشيطين غير الأجراء من خلال ضمان معدل تعويض معقول للدخل يمكن الاستفادة من معاش لائق، وتوظيف مدخرات الصناديق بشكل ناجع من خلال استثمارات ذات مردودية بقطاعات تساهم في خلق مناصب الشغل، وفقاً لأفضل معايير تدبير المخاطر، بالإضافة إلى توسيع مجال التمويلات المبتكرة على جميع الصناديق، من قبيل التحفيز الضريبي وغيرها.