تقاس شخصيات الناجحين والأفذاذ بالأثر الذي تركوه، ثم بالمنهج الذي حملوه، وإن أضفنا اعتباراً ثالثاً فسيكون بحجم الأتباع والمحبين والمريدين.
ولا شك أن فقيدنا الشيخ الداعية أو -كما كان يحب أن يوصف- «خطيب منبر الدفاع عن الأقصى» الشيخ أحمد القطان، يرحمه الله تعالى، كان بحقٍّ مدرسة في هذه الثلاثة؛ بل كان علامة فارقة على مرحلة من مراحل الأمة الإسلامية ماجَتْ بالأفكار والتيارات والأحداث العظام.
عند الحديث عن رحيل شيخي وقدوتي أبي عبدالله أحمد القطان؛ فكأنما رحلت قطعة من ذكريات طفولتي الجميلة ومشاعر عزيزة من قلبي؛ فقد كان الشيخ جاراً ومن رواد مسجدنا أبي سنان الأسدي في منطقة بيان، ولطالما تربينا على خواطره العفوية الرائعة التي يفسر فيها ارتجالاً ما يقرؤه الإمام في الصلاة، وما أجمل افتتاحياته عندما يقول: «إني أحبكم الله»؛ فتجده قد تغلغل إلى قلبك قبل أي حديث وموعظة.
هنا كان الملمح الأول للشيخ في ذاكرتي وهو «الدعوة إلى الله»، متمثلاً قول الحق: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33)، ويكأني أراه رأي العين ماثلاً أمامنا يهدر بفصيح اللسان وصادق الجنان.
ملمح آخر لا يغيب عن مخيلتي وهو حضوره في ديوان والدي حرصاً منه على الصلة وتلبية الدعوة والإسهام بنشر الفكر الإسلامي المستمد من كتاب الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
ملامح كثيرة وملامح..
عندما كبرت قليلاً بدأت أتفرس مدرسة دعوية اسمها أحمد القطان..
عرفت منبر أحمد القطان والدفاع عن الأقصى..
عرفت همة أحمد القطان في الدعوة وحب الخير..
عرفت مهارة أحمد القطان الخطيب المرتجل المصقع..
عرفت أخلاق أحمد القطان المتواضع البسام، المرحب بالأشعار والأسمار.. وبالدين يسمو المرء بالعلياءِ..
عرفت حامل المسك أحمد القطان الذي كلما سلمت عليه يطيبك من نصف التولة التي يحملها دوماً معه، وما أطيبها وما أطيب نفسه.. وكنت عندما أعرفه بنفسي وأذكره بوالدي يقول: «أهلاً بالطيب ابن الطيب»..
كأني أسمعه يرحب بالحضور قائلاً:
قد علمنا مجيئكم ففرشنا مهجة القلب مع سواد العيون
ما زلت أذكر تلك الأيام حينما كان ينتشر خبر لحدث في الأمة نتسارع صباح الجمعة إلى مسجده منبر الدفاع عن الأقصى وعن الأمة؛ فنسمعه يجلجل ويقصف بصوت الحق، مستشهداً بغرر الآيات ولآلئ الهدي النبوي، ذلك اليوم الذي مات فيه أحد الظلمة فإذ بافتتاحيته الشهيرة: «الحمد لله قاصم الجبابرة، ومحطم عروش القياصرة»، وكان له أسلوبه العجيب في الترميز والتلميح دون التصريح خصوصاً حين بدأت التضييقات في الخطب؛ فكان تلميحه أقوى من كل تصريح، ودونكم خطبته عن جنازة بن سلول، أو ارجع فاستمع «تباً جدار الصامتين»، وردد معه حين يقول: «لا مؤتمر لا مؤتمر.. أنا لا أريد سوى عمر».
كان يطوف بنا في خطبه وخواطره ودروسه ما بين عجائب التفسير وأحاديث رياض الصالحين للنووي، وأظنه كان يحفظه لشواهد رأيتها منه رأي العين، ثم يطوف بـ«مدارج السالكين» لابن القيم وقد شرحه، وأشعار الصالحين والمجاهدين، ثم بلطائف شعر الأصمعي وكأني أسمع صوته وهو يروي: «صوت صفير البلبل»، كما لا أنسى في مسجدنا حين يشرح غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهد السيرة النبوية.
وكن في الطريق عفيف الخطا شريف السماع كريم النظر
وكن رجلاً إن أتوا بعدَه يقولون مرّ وهذا الأثر
في الحقيقة قد نسرد عن مآثره الكثير، وغيري قد رافقه وصادقه أكثر، لكننا هنا أمام مدرسة حري بنا اقتفاء آثارها، نعم لم يكن معصوماً لكنه كان رجلاً ربانياً موفقاً مباركاً، كما نحسبه والله حسيبه.
بقي أن أنوه بخصلة شهدتها منه شخصياً عدة مرات؛ فبحكم سكني قرب بيت الشيخ، ثم بحكم نشاطنا الدعوي؛ كان الشباب أحياناً يطلبون مني تنسيق درس مع الشيخ أو خاطرة، فأشهد أنه لم يردنا مرة، إلا أن يكون له موعد مسبق، سواء كان هذا الموعد في المسجد القريب أم في البراري التي يعشقها، وكان له معها شأن، نعم حرصه لتبليغ الدعوة كان أهم خصائصه التي لو أردت أن أختصر شخص الشيخ لقلت: إنه «الداعية» (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108).
اللقاء الأخير
في صباح يوم الأربعاء 18 مايو، قبيل وفاته بأيام، كنت في جمعية الإصلاح الاجتماعي، وكانت آخر مشاركة وحضور للشيخ في استضافة بين إخوانه في ديوان رواد الخير بجمعية الإصلاح؛ حيث دخل كعادته مرحباً مبتسماً، حدثنا عن الدين والأمة وفلسطين وتأثر كثيراً، ثم أحس بتعب واستأذن أحبابه وتم نقله ليرتاح، ثم سمعنا خبر دخوله المستشفى، فيا لله ما هذا الرجل الذي احتلت محبة أمته ودينه وقدسه ودعوته كل ذرة من كيانه حتى رافقته لآخر لحظات لحياته.
قلبك المطمئن قبضة نور منحت أعين السماء مداها
أرضنا هذه لطهرك تهفو أنت برهانها وأنت هُداها
نحبك في الله يا شيخنا الحبيب أحمد القطان، ودعواتنا تترا بأن يمطر الله عليك من شآبيب رحمته، وسحائب عفوه ومغفرته، وأن يملأ جنبات قبرك بالضياء والنور، وأن يجمعنا بك تحت ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله.. آمين.