يعيش كل فرد اليوم -تقريبًا- في عالَم الكل، حتى لا يكاد ينفصل أحدٌ عن غيره في أي جزئية، وبذلك غدت مساحة الاستقلالية والخصوصية أضيق من أي وقتٍ مضى، التي نراها في كل يومٍ تضيق أكثر وأكثر!
وحيث كثُر الحديث منذ زمنٍ عن العولمة، والمجالات التي تستهدفها وتغطيها، ثم ما أضيف لها من وسائل ومُستحدثات وتطورات؛ ساهمت جميعها في جذب الواحد نحو الكل، وفي جعل الكل بين يدي الواحد وفي متناوله؛ مما يجعل من الصعب للغاية عيش الفرد منعزلًا عن محيطه، إذ لا بد أن يتصل به بأي شكل من الأشكال، وأن يصيبه منه ما يصيب غيره مهما حاول الابتعاد أو عدم التدخل.
هنا يُطرح السؤال: كيف للفرد أن يعيش هانئًا هادئًا دون تدخل أحد في مساره؟ كيف ينأى بنفسه عن تجاذبات الكل حتى لا يتأثر مساره بأي مؤثرات لا يحبها ولا يحبِّذها؟ وبالتالي يعصف به التيار كما عصف بغيره، ويدخل في دوامة الأخذ والرد التي لا نهاية لها تقريبًا!
نحن لا نقصد هنا ابتعاد المرء عن الناس، ولا الانفصال عن المحيط، ولا التبرؤ من المجتمع، فالإنسان -كما يُقال- مدني بطبعه، ولا بد من التعامل مع الآخرين، وهذه من سنن الحياة وطبيعة الدنيا، ولكن ما نقصده هو دخوله العوالم الافتراضية من خلال وسائلها العديدة، وعيشه مع تلك المجتمعات وهمومها وإشكاليتها وتحدياتها بأنواعها، مع أنه قد لا يكون له في ذلك دور إيجابي، أو تأثير ملموس، غير استجرار المتاعب أو إشغال نفسه التي كان الأجدر له ولها أن يجد لها مُتنفسًا طيبًا نافعًا بعيدًا عن كل تلك التجاذبات.
اليوم يحرص كل فرد على التواصل مع الآخرين ومعرفة ما لديهم وما عندهم، بل ترى الكثير يتابع الآخر في كل حركاته، ويقوم كثير أيضًا بنقل كل حركاته وسكناته للآخرين وبمختلف الوسائل وعلى جميع المستويات، وبناء على هذا المسار المكشوف قصدًا؛ أين يمكن للفرد الآخَر الباحث عن الهدوء لنفسه وروحه أن يجد مسارًا هادئًا، يعيش فيه بخصوصيات مستورة، ويتمكن من خلاله أن يلتفت لما يهمه في دنياه وأخراه، دون التأثر ببنيات الطريق أو غرور النفس بظنون تأثيرها وضرورة وجودها في خضم (المعمعات)!
يلاحظ المرء ذو الفطرة السليمة؛ أنه يشتاق بين الحين والآخر للابتعاد عن الزحام، والذهاب إلى أماكن الطبيعة كما هي.. يشعر بالنهار على حقيقته، ويتذوق ما يرى وما يسمع، ويقترب مما يدبُّ فيه، كما يشعر بالليل وسكونه.. يرى السماء كما هي صافية هادئة، يستمتع بمناظر سحاب النهار ونجوم الليل، ويستنشق هواءً عليلًا، وتمر عليه أنسام البكرة والأصيل دون ألوان وملوِّثات.. أليس كل ذلك منقوص أو مفقود في خِضم تيار الكل؟
ومما يزيد الأمر اليوم تعقيدًا؛ السرعة والتنافس المحموم في كل شيء وفي كل مجال، فهذا برغم أن له إيجابيات من طرق أخرى؛ فإنه يساهم في بقاء النفوس قلِقة، كما يجعل الجميع داخلًا في خِضم الدوائر الجامعة بطبيعة الحال وطبيعة العمل الذي من خلاله يحصل الأخذ والعطاء والشد والجذب، وبهذا يضطر الواحد مشاركة الجمع، ومن هذا الباب وبسبب هذا الاضطرار قد يتدخل كثيرًا فيما لا يعنيه، كما قد يصله الكثير مما لا ينفعه، ويحكم عليه تيار الكل بحكمه، ويجرُّ عليه بخيله ورَجله.
بعد هذه الإشارة؛ هل يا تُرى تستطيع اتخاذ مسارٍ خاصٍ بك، تختاره أنت بكامل إرادتك، وتدخل فيه طوعًا لا كرهًا، وتعيش فيه هانئًا مستمتعًا؟ وهل بإمكانك جعل ذلك المسار فرديًا أو ذاتيًا، أي: تكون أنت مبتدؤه وصاحبه ومنتهاه؟ أم أنه مسار -ولا بد- سيكون أحد مسارات الكل، وبه تعيش الحياة الجماعية المشتركة بكل ما تحتوي عليه من سلبٍ وإيجاب!
من هنا يقوم البعض باختيار مسارٍ تكون بيئته ووسائله بعيدًا عن صخب المجموعة ومواطنها، فتجده ينأى بنفسه يومًا في الأسبوع، أو الشهر، أو أقل أو أكثر، يذهب إلى منزل خاص به في الريف، أو يزور قريبًا أو صديقًا له في قرية، أو يتخذ له رحلة هادئة، وهكذا… وهو بذلك يبحث عن نفسه التي فقدها في دوامة التيار وجنون الحركة، وما إن يجد ذاته ويدرك طبيعتها على حقيقتها؛ حتى يشعر أن كل شيء حوله جميل، وأن كل شيء له صديق، وهذا يغريه لمعاودة التجربة ولا شك، كما يجعله يعيد التفكير في اختيار المسار، وتحرير الاختيار، وتقييم حياته كواحد يعيش في زمن الكل!
____________________________
(*) كاتب وباحث يمني.