هذه الحلقة الرابعة والأخيرة من درس المعالم الفكرية الحضارية في أفكار ورؤى شيخ الإسلام “مصطفى صبري”، ونحاول فيها الوقوف على موقفه من إشكاليتين تتعلقان بالجانب السياسي، والجانب التشريعي
القضية الثالثة: الإشكالية السياسية
انطلاقاً من منهجيته الكلامية في الدفاع عن العقائد الإسلامية وتمثلاتها في الواقع المعيش تعرض “مصطفى صبري” لمسألة تُعد الأكثر سجالاً للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر وهي “فصل الدين عن الدولة”؛ ما يعد استمراراً لتغلغل المشروع التغريبي لا سيما فيما يتصل بعملية نقل المفاهيم من البيئة الغربية إلى البيئة الإسلامية دون مراعاة للبنى المعرفية والتصورات الأساسية للمجتمع الإسلامي.
في البدء يوضح منهجه في معالجة هذه الإشكالية، ولماذا وضعها في المباحث الكلامية المتصلة بالعقائد وهي مسألة يبدو من مظاهرها أنها تتعلق بالمصلحة الدنيوية فيقول: ” إن السبب الذى حداني إلى حشر مسألة فصل الدين عن السياسة مع مسائل الألوهية والنبوة التي هي موضوع هذا الكتاب المتصل بعلم أصول الدين على الرغم من عدم كون مسألة الفصل والتحذير منه من مسائل هذا العلم الباحث في عقائد الإسلام وإنما مسألة الفصل والتحذير منه ترجع إلى ناحية العمل؛ كون أن الدافع الأصلي إلى تأليف هذا الكتاب ما رأيته ورأى معي كل غيور على أهل ملته بعيون دامعة من تشتت شمل المسلمين وهبوطهم إلى حضيض الذل والمسكنة منذ طروء الضعف على اعتصامهم بدينهم القوي القويم” ([1]).
ومن ناحية أخرى يؤكد على ضرورة اشتغال العلماء بالسياسة حيث يدمج البناء المعرفي الإسلامي: بين الدين والسياسة، وبين العلماء وممارسة الدور الاجتماعي، ويشير إلى ذلك بقوله “إن المساعي المتعلقة بمصلحة العامة إن تجردت عن السياسة تذهب هباء وهواءً، وكل نصيحة لا تؤيدها السياسة فهي بمنزلة تضرع العاجز… والذين جردوا الدين في ديارنا عن السياسة كانوا هم وإخوانهم لا يرون الاشتغال بالسياسة لعلماء الدين بحجة أنه لا ينبغي لهم وينقص من كرامتهم، ومرادهم حكر السياسة وحصرها لأنفسهم ومخادعة العلماء بتنزيلهم منزلة العجزة … فالعلماء المعتزلون عن السياسة كأنهم تواطئوا مع كل ساسة، صالحيهم وطالحيهم، على أن يكون الأمر بأيديهم، ولما أن هداني الله من قديم إلى التنبه لمكائد السياسيين ذوى المبادئ اللادينية وواجب علماء الدين لقاءهم ما تنحيت عن المجاهدة في غمرات السياسة لا على اتخاذ الدين آلة للسياسة، بل على جعل السياسة آلة للدين مستخدمة في تعزيزه وتنفيذه لكونها أقوى الآلات ممثلة لقوة الحكومات” ([2]) .
تنبه “مصطفى صبري” مبكراً ومن خلال قراءة سياسية واعية لمشروع “تفكيك الخلافة” وذكر ذلك في أكثر من موضع، لا سيما كتابه “النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة”، و”النعمة” التي يشير إليها هنا الخلافة وقوانينها الإسلامية التي تحكم الأمة التي ارتضت الإسلام ديناً وعقيدة ومنهجاً؛ فيقول: “إنا إذا اعتقدنا أن دين الإسلام نعمة للمسلمين وسعادة لهم في دنياهم وأخراهم، وأنه داخل في مشخصات شعوب المسلمين الذين يشعرون بها أنفسهم ويعدونها من مزاياهم النفسية؛ فلا ينافى حريتهم واستقلالهم كون حكومتهم ممنوعة من التخطي إلى ما وراء حدود الدين، كما أن كونها ممنوعة بالطبع عن العمل بما يغاير الوطنية والشعائر الملية لا ينافى الحرية والاستقلال. وهنا مزلقة فكرية يجب أن ننبه عليها: وهي أنه إذا أحببنا الحرية وأطربنا مكانها عند النفوس الشريفة فلا بد أن نريد بها حرية الأمم تجاه الحكومات لا حرية الحكومات في القيام بأمور الأمة، حتى إن الزيادة في حرية الحكومة تضر بحرية الأمة وتنقصها، ولهذا يجب أن تكون الحكومة في معاملاتها مع الأمة مقيدة بقوانينها”([3]).
ثم أشار –أيضاً– إلى الشروط التي يمكن من خلالها تحقيق مفهوم “الأمة المسلمة” ومنها:” كون أفرداها منتسبين إليها ومقيدين بها باختيارهم التام غير مخاطبين في ذلك بأمر أحد أو نهيه يبلغ درجة السلطة، فهذه ديانة الأمة بالنظر إلى أحوالهم الانفرادية، ثم إن لهم حالة الجمعية وحالة الحكومة، ودين الإسلام لما لم يعزب عن عنايته ورقابته حال الإفراد وحال الجمعية معاً؛ بل كان شديد العناية والعلاقة بالأحوال الاجتماعية والمدنية فلا جرم أن كان شرطاً لصحة أن تعد الأمة أمة مسلمة إسلام فردها الحكمي وشخصيتها الاجتماعية والسياسية كإسلام أفرادها الجزئية بكون هذا الفرد الحكمي – أيضاً – منقاداً لأحكام الشريعة الإسلامية ومعترفاً بها، فإذا أذعنت الأمة لأحكام الإسلام وحدانا ولم تذعن لها في حالة الجمعية والحكومة التي تمثل فرد الأمة الحكمي ما صح إسلامها”([4]).
تناول –أيضاً– مسألة الخلافة وما حدث لها من افتراق بينها وبين السلطة وهو ما قام به “الاتحاديون” في تركيا قبل إعلان إسقاط الخلافة عام 1926م؛ فيعرف الخلافة بأنها “عبارة عن كون حكومة ما نائبة مناب رسول الله r في القيام بأحكام الشرع… فاللازم في تحقيق الخلافة رعاية الحكومة لشرائطها الإسلامية؛ فيكون اتصاف الحكومات الإسلامية بـ”الخلافة” على قدر تلك الرعاية، وهي لا تكتسب باعتبار المعتبر كالوراثة أو التوجيه من قبل شخص أو جماعة([5]) (إشارة إلى نقل الحكومة والسلطة إلى المجلس الوطني وبقاء الخلافة دون حكم أو سلطة)، كما أشار إلى آراء على عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” وأفرد لها نقداً مطولاً([6])، مؤكداً عدم الفصل بين الخلافة والحكم فهذا يخالف السيرة النبوية وإجماع الأمة؛ حيث إن “الخلافة والحكم” كانا متحدين منذ زمن النبي r، والخلافة قامت عبر التاريخ الإسلامي بالنيابة عن النبي r في الأمة ولم يفترقا؛ لأنه إذا انتقلت الحكومة عن الخلافة افترقت عن الدين.
القضية الرابعة: الإشكالية التشريعية
طرح “مصطفى صبري” قضية أخرى متفرعة عن مسألة فصل الدين عن الدولة أو الخلافة عن السلطنة، وما تبعهما في البلدان الإسلامية من إلغاء المحاكم الشرعية، والدعوة إلى العمل بالدستور وسن القوانين الوضعية وإلغاء العمل بالتشريع الإسلامي. واتسم الطرح هنا بالمقارنة بين نمطي التشريع (الإسلامي والوضعي)، مبيناً الفوارق الأساسية والكلية لا سيما ما يتعلق بطبيعة هذين النوعين ومصدرهما وقدرة كلٍ منهما على تحقيق الغاية المنوطة بفكرة القانون في إطلاقها.
فإذا كانت غاية القوانين هي وَزْع الأمة أو الحكومة عن النزوع إلى أهوائها؛ فمستبعد جداً ومستغرب وزْعها بما تستقل في سَنه وتبديله متى شاءت؛ فيلزم أن يكون لسن القوانين حدود يوقف عندها. وبعبارة أخرى: يلزم أن يوجد قوانين أساسية لا يتخطاها نظام القوانين ولا يسوغ لهم تبديلها حتى تنتهي القوانين الموضوعة فيها ويستفيد قوة الوزع منها، وتلك القوانين الأساسية أكملها ما كانت سماوية لما أن تغييرها ليس في وسع النشر؛ فهي أحرى أن تكون تخوم الاستناد، وتتخذ آخر مفزع لإصلاح الفساد الناشئ من أنفسهم ومنهم نظام القوانين([7]).
وفي سمات التشريع الإلهي بالإضافة إلى الثبات وخلوه من الأهواء، احترام المكلفين له لقداسته، ومنع التلاعب به والزيغ والأهواء، وضمان العدالة وعدم التحيز، وقد استشهد “مصطفى صبري” بكتاب لمؤلف غير مسلم، يدعى صاوا باشا الرومي، بعنوان “نظرية الحقوق في الإسلام”([8])، اهتم بتوضيح “النظرية الحقوقية الإسلامية” من خلال القوانين التي أرستها الشريعة الإسلامية، وطبقها المسلمون في تجارتهم وصناعتهم وأعمالهم المختلفة في الشرق والغرب. كما أشار الكتاب –أيضاً– إلى تميز فلسفة الفقه الإسلامي وتاريخية نشأة الفقه في الإسلام، وتأثير الشريعة الإسلامية في تكوين العادات التجارية في القرون الوسطى، وتميز الشريعة على القانون الروماني.
_______________________________________________________
([1])مصطفى صبري: موقف العقل والعلم ج4، ص286.
([2])مصطفى صبري: النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة، هامش ص177.
([6])مصطفى صبري: موقف العقل، ج4، ص 319 -376.