يظل الأدب من أهم الوسائط التي تنهض بترقية الوجدان، وتجلية الأذهان، ورفد العقول بالقيم والمعارف والجماليات.
وإذا كان الشعر هو فن العربية الأول منذ بدأ ذكر العرب العاربة أو العرب المستعربة، ورواية أخبارها وتاريخها وآدابها، فإن فن السرد أو القص أو الحكاية يمثل طريقاً مهماً للتسلية والتربية، ولما جاء الإسلام كان القصص القرآني مدهشاً، ومشوقاً، فقد رأى فيه العرب قصص الأنبياء، وأخبار الأمم القديمة، كما رأوا في الحديث النبوي الشريف بعض السرديات التي تشبع وجدانهم، وتناغي أفئدتهم، وهو ما جعلهم يعيشون تجارب تاريخية وتربوية وإنسانية، كانت عبرة لهم وموعظة، (كتابي: روائع القصص النبوي: في رياض النبوة (4 أجزاء). الطبعة الثانية، دار الصحابة، القاهرة، 2012م).
لقد انبهر المسلمون بقصص يوسف، وموسى، وعيسى، ومريم، وأهل الكهف وأصحاب الجنة وغيرها، وعندما رسخ الإسلام أقدامه وجد الرواة والقصاص في المساجد والساحات، ما يجذب إليهم أعدادا كبيرة من المستمعين والمتلقين، يستمعون إلى القصص الإسلامي والإنساني، والواقعي والخيالي، فيسليهم ويفيدهم، ويوجههم إلى وجهات تستهدفها السردية أو القصة أو الحكاية، وتطور الأمر بعدئذ ليكون السرد معتمداً على الخيال في معظمه، كما رأينا في السير الشعبية، وألف ليلة وليلة وغيرها.
وقد استعان الخطباء والوعاظ والدعاة بالقصص الإسلامي، وما زالوا، لأنهم يجدون فيه وسيلة أدبية لتوصيل العقيدة والشريعة والسلوك والخلق.. كانت القصة وسيلة لتجسيد الفكرة ودعمها، وتيسير وصولها إلى الجمهور أو المتلقين.
السرد الحديث
ولا ريب أن انتقال السرد على الطريقة الغربية إلى الأدب العربي كان بداية تأسيس للفن القصصي المقروء وفقا للقواعد الأوروبية، فدخلت القصة الغربية عن طريق الترجمة أولاً، ثم أخذت المحاولات العربية عن طريق المحاكاة؛ تسعى لتقديم قصة أو رواية عربية، وفق منهجية خاصة تعبّر عن الواقع العربي، وخاصة بعد أن صار تأثير السرد على الجمهور كبيراً وقوياً وفعالاً.
لست في مجال عرض التطور السردي في أدبنا الحديث، ولكني أشير إلى دور الرواية التاريخية في تقديم السير المختلفة لقادتنا ورموزنا التاريخيين على المستويات كافة، ثم دور الروايات الرومانتيكية والواقعية والنفسية في نقل القيم والآداب والأفكار وغيرها إلى الأجيال المتوالية.
وقد أدركت جهات عدّة أهمية السرد في مواجهة الأفكار والآراء المختلفة بصورة أعمق من آلات الدعاية، أو ما يسمى الإعلام الذي يقوم على الكلمة المكتوبة، والمسموعة والمصورة، ثم ما وصلت إليه وسائل التواصل الاجتماعي في أيامنا الراهنة من تأثير على روادها ومعارفهم.
صار السرد في أيامنا أداة مهمة للغاية، خاصة إذا قدمته يد صناع تعرف أصول الفن، وتملك الموهبة الأصيلة، واللغة السلسة المعبرة.
حسم الصراعات
ولأن الواقع المعاصر تتجاذبه صراعات شتى، وخاصة ما يتعلق بالمعتقدات والتصورات والحقوق والممتلكات والسلطة والسيادة، فقد أدرك المعنيون قيمة السرد في حسم هذه الصراعات على مستوى الأفراد، ثم على صعيد المجتمعات، والدول.. لأنه يتسلل بنعومة إلى المتلقي وهو مسترخ في بيته، وهو يقرأ في نزهته، أو يطالع في أثناء سفره، أو انتظاره في بعض الأماكن والمؤسسات.. أو حين يراه مصوراً عبر الدراما أو السينما.
وللأسف كان الإسلام في العقود الأخيرة “مستهدفاً أول” في هذه الصراعات، وكان للسرد دور كبير في تحقيق خطوات غير طيبة ضد الفكرة الإسلامية، حيث نجحت بعض الأطراف في ربط الإسلام بالإرهاب والتخلف والظلام، وكانت التجارب الدامية التي شهدتها بعض البلدان العربية، قرينة دالة على هذا الربط، وأحرز السرد الموجه في هذا السياق انتصارات ملحوظة، حيث صار كل مسلم إرهابياً ومتخلفاً وظلامياً، وكل إرهابي متخلف ظلامي مسلم بالضرورة، وأدى ذلك إلى وضع المسلم في دائرة حمراء، تصحبه إذا سافر أو أقام، وإذا كسب مالاً أو حوله لغيره، وإذا اجتمع مع غيره أو التقى بأقرانه.. السرد صار أداة فعالة لإدانة الإسلام وأتباعه بامتياز، وخاصة إذا كان كتّاب السرد من الناقمين عليه، أو غير المتعاطفين معه!
شيوعيون ناقمون
في بلد مثل الجزائر وحدها، ظهرت في العقدين الأخيرين وحدهما، ما يقرب من خمسين وثلاثمائة رواية عن العشرية السوداء وأحداثها الدامية، كتب معظمها شيوعيون ناقمون على الإسلام والمسلمين، موالون للحكم المستبد الذي رفض نتائج الانتخابات الشعبية في الجزائر (1992م)، وأوقفها، وأعمل آلة القتل التي لم تتوقف إلا بعد أن أتت على ربع مليون جزائري مسلم، وجرى فيها الدم أنهاراً، وهو ما لم يخطر على بال أشد المتوحشين الدمويين، ويمكن قراءة كتاب الضابط السابق في الجيش الجزائري (1992- 2000م)، “حبيب سويدية”، الذي نشر في باريس، وعنوانه “الحرب القذرة”، وترجمته: روز مخلوف، دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2003م، حيث يكشف عن أحد أكثر المحرمات في المأساة الجزائرية، وهو آلية العمل في الجيش الجزائري في الداخل، كما يكشف عن وقاحة الجنرالات فيما يتعلق بتقديرهم الخاطئ لعواقب ما يجري، ويجلي الكتَّاب دمويتهم، وأسلوب حشوهم لأدمغة الجنود، ويسلّط الضوء على يأس هؤلاء الجنود المكرهين على القيام بأفعال بربرية، وعلى ما يفتك بهم من مخدرات وعمليات تطهير داخلية، الأمر الذي جعل لشهادة هذا الضابط دوياً كبيراً وراء حدود الجزائر وخاصة في الغرب، بعيداً عن التضليل الإعلامي الذي مارسه الجنرالات، وبموجبه منعوا العالم الأوروبي من إدراك أبعاد المأساة الدامية المخيفة التي صنعوها.
الأدب العربي في ظل الإسلام
ظل الأدب منذ البعثة النبوية الشريفة معبراً عن روح الإسلام وقيمه وطبيعة الأمة وهويتها الإنسانية والاجتماعية، باستثناءات قليلة انحرف فيها بعض الأدباء، الذين خرجوا عن التصور الإسلامي والقومي، ليعبروا عن بعض الأغراض السطحية المبتذلة، أو الخطط الباطنية الخبيثة، مثل الحديث عن الخمر، والغزل بالمذكر، والعلاقات المحرّمة، والدخول في سياقات صوفية باطنية متطرفة، أو شعوبية عنصرية يرفضها الإسلام جملة وتفصيلاً.
بيد أن هجمات الاستعمار الغربي، وسقوط معظم المناطق الإسلامية العربية تحت سيطرته وهيمنته في العصر الحديث، وازدهار التبشير بالثقافة الوثنية الغربية تحت مسميات مختلفة؛ جعل بعض الأدباء، الذين تأثروا بثقافة الغرب تأثراً سلبياً، أو سافروا إلى عواصم الغرب، وصدقوا أكاذيبه، وانخدعوا بمكره ونفاقه، أو أغرتهم عطاياه وهباته (ترجمة ونشراً وزيارات وجوائز وأوسمة وشهرة..)، جنوداً مجندة لخدمة الفكر الغربي الوثني، وترويج الإحساس بالدونية تجاه قيمه وأخلاقه ومفاهيمه، والتخلي عن الثقافة الإسلامية ومفاهيمها وقيمها، ووصل الأمر إلى حد القطيعة مع الإسلام، وتفسير الوحي تفسيراً أسطورياً، ووضعه في إطار المنتج التاريخي!
ومع تجذر حضور المبشرين واستقدام المستشرقين لتدريس الأدب العربي والعلوم الإسلامية في بعض الجامعات العربية التي أنشئت في مصر والشام، انفصلت الفكرة الإسلامية عن الأدب بصورة واضحة، وأضحت الأولى مرفوضة عملياً لدي نخبة لا يستهان بها وإن كانت قليلة العدد، وخاصة تلك التي ابتعثت للحصول على شهادات التخصص في الدراسات الإسلامية وفروع اللغة العربية، وفي مقدمتها النقد والأدب.
محاصرة الفكر الإسلامي
وعقب الانقلابات العسكرية بعد ضياع فلسطين (أولها انقلاب حسني الزعيم 1949م)، وانتشار الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والقومية والعلمانية والشعوبية في العواصم العربية المهمة، ووصول بعضها إلى الحكم، تمت محاصرة الفكر الإسلامي، وشطبه إلى حد كبير من التشريعات والقضاء، والتشهير به عبر المنصات الإعلامية، وعدّه سبباً للتخلف والجمود، وقريناً للرجعية والانحطاط والظلام، ثم تعليق الفشل في المجالات المختلفة، والضعف في التطور الحضاري على عاتقه.
ومع أن بعض الأصوات حاولت الدفاع عن الإسلام وثقافته، واستبسلت في بيان براءة الإسلام من الفشل والضعف، فإن الحملة الشرسة ضده كانت قوية وسافرة، لدرجة أنه في النصف الثاني من القرن العشرين أصبح منبوذاً أو شبه منبوذ في الإعلام والثقافة والمناهج الدراسية وخاصة في التعليم الأساسي (الحضانة والابتدائي، والإعدادي والثانوي وما يعادله)، ثم صار في أواخر القرن العشرين حالة مزعجة ترتبط بالتطرف والإرهاب وكراهية الحياة.
كان هناك سعي حثيث لتقليص الأفكار الإسلامية في مواد اللغة العربية، حتى لا يدرسها الطلاب، أو يتأثروا بها، وكانت الحجج المرفوعة في هذا السياق، الحفاظ على الوحدة الوطنية، والحرص على مشاعر غير المسلمين، وما أكثر ما كتب الشيوعيون وأشباههم في الصحف ووسائل التعبير لإلغاء التربية الدينية، تحت دعوى ضرورة عدم انفصال الطلاب غير المسلمين في حصتها المدرسية، فضلاً عن الدعوى الظالمة التي تربط بين الإسلام والإرهاب، والخضوع لإرادة الدول غير الإسلامية بتغيير مناهج التربية الدينية واللغة العربية لتتواءم مع المعاهدات والاتفاقات المتعلقة بما يسمى السلام مع العدو الصهيوني، والاندماج في السياق الدولي.
الشعوبية الضيقة
لقد نشأت مع رواج فكرة القومية العربية، فكرة أكثر انفصالاً عن جسد الأمة الإسلامية، وتراثها، وهويتها، وهي الدعوة إلى الإقليمات الشعوبية الضيقة، الفرعونية في مصر، الزنوجة في السودان، الفينيقية في الشام، البابلية في العراق، البربرية في شمال إفريقية، والسبئية في اليمن.. وعرف القراء في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين شعراً أو أدباً يقوم على ما يسمى بالرفض.. أي رفض العروبة، والقومية العربية في الظاهر ورفض الإسلام في الباطن، وعد العرب غزاة فاتحين، والرمز إليهم من خلال الشعر بالرمل والغربان وغير ذلك (شعر أدونيس مثالاً)، فضلاً عن تشويه قيم الإسلام، والإشادة بحركات التخريب والهدم في التاريخ الإسلامي، مثل ثورة الزنج والقرامطة والباطنية، وغلاة الصوفية من أصحاب فكرة الحلول ووحدة الوجود، واحتضان الحركات المعادية الحديثة مثل البابية والبهائية والقاديانية، والترويج لمصطلحات غير إسلامية في الشعر والكتابة عامة مثل: الخطيئة، والخلاص، والفداء، والصلب.. (محمود محمد شاكر، أباطيل وأسمار، مطبعة الخانجي، القاهرة، د. ت، 1/161- 167).
بل إن بعض المشرفين على الأقسام الأدبية والثقافية في الصحف الكبرى، كانوا يوجهون الأدباء والشعراء وخاصة الشباب إلى قراءة الإنجيل، حد الإدمان بحجة أنه يحمل نصوصاً إبداعية شاعرية مثل “نشيد الأنشاد”، ومطالعة أدبيات اليسار الشيوعي العالمي، بوصفها تعبر عن حياة الكادحين في العصر الاشتراكي! وقد نتج عن ذلك أعمال لا تحمل نبض الإسلام وروحه، وكأن الإسلام ضد الإبداع والفن، ولا علاقة له بالفقراء والمحرومين والعدالة الاجتماعية!
الحلاج.. والحسين!
في “الأهرام” التي كان يشرف على صفحاتها الأدبية في الستينيات من القرن الماضي لويس عوض مثلاً، قرأنا شاعراً مثل صلاح عبدالصبور وهو يقدم لنا الحلاج الصوفي في صورة المسيح عليه السلام، من خلال مسرحيته الشهيرة التي تحمل اسم “مأساة الحلاج”، وتغصّ بنصوص إنجيلية لا أظنها ضرورية في واقع رجل يفترض أنه ينتمي إلى الإسلام!
وعلى الجانب اليساري الشيوعي نقرأ مسرحية الحسين عليه السلام، في جزئيها (الحسين ثائراً، والحسين شهيداً)، لمؤلفها عبد الرحمن الشرقاوي، وكأننا أمام الثائر الشيوعي اللاتيني (تشي جيفارا)، الذي يصرخ بالأدبيات الشيوعية، فضلاً عن الشتائم والبذاءات التي لا تصدر عن سبط رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم!