خلاف شديد بين أساتذة القانون في تونس في تقويمهم لدستور قيس سعيّد ومدى علمانيته وإسلاميته؛ فبعضهم قال: إنه يمهد لإقامة دولة إسلامية من خلال الإشارة إلى مقاصد الإسلام مثل مدير “معهد تونس للسياسة” أحمد إدريس، ومن يرى أن دستور سعيّد هو دستور 1959 نفسه الذي يعد دستوراً لائكياً، وفق أستاذ القانون الصادق شعيان، واعتبر البعض على الدستور الذي سيعرض على الاستفتاء يوم 25 يوليو الجاري وعدّوه دستوراً باطلاً ويؤسس لنظام استبدادي، وقال عنه رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي: إنه يحمل نظرة دونية للقضاء وينتقص من دوره، بينما اختفى الصادق بلعيد، رئيس لجنة إعداد الدستور، عن المنصات الإعلامية للتعليق على الدستور، بعد اختلاف مضامينه التي أعدها مع أمين محفوظ وآخرين، وخلا من أي ذكر للإسلام.
وعلى غرار القانونيين، اختلفت الأحزاب والمنظمات حول المشاركة في الاستفتاء ومقاطعته؛ فبعض الأحزاب قررت المشاركة بـ”نعم” مثل حركة الشعب، وأخرى بـ”لا” مثل حزب آفاق تونس، وكانت أحزاب النهضة، وائتلاف الكرامة، وقلب تونس، والحزب الجمهوري، والتكتل، وحزب العمال، وغيرها قررت مقاطعة الاستفتاء، أما المنظمة النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل) فتركت حرية الاختيار لأعضائها بالمشاركة بـ”نعم” أو “لا”.
دستور مستبد
أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور علق على محتوى الدستور بقوله: إن هذا الدستور دستور مستبد مكتوب بأسلوب ماء وردي، إذ تفتقد صياغته إلى الصياغة القانونية، ولا أدل على ذلك مما ورد في التوطئة من جمل وتعابير على غرار “جحافل الشهداء”، و”تزيد تونس اخضراراً من أقصاها إلى أقصاها”.
كما أنه -والكلام لابن عاشور- دستور يؤسس لنظام استبدادي ولا يتضمن إمكانية إعفاء للرئيس، ولا يعطي أي إمكانية للرقابة عليه.
ويرى أن الرئيس يتحكم في الحكومة بتعيينها وعزلها كما له الأفضلية التشريعية، ويعين المحكمة الدستورية بتعيينه للقضاة.
وحول التبرير لتركيز السلطات لدى الرئيس بهدف الحد من تفتُّت الدولة، قال ابن عاشور: هو تبرير لا معنى له؛ لأنه لا يعترف بمبدأ التفريق بين السلط، وهو مخالف للمبادئ الأولية للدولة الديمقراطية.
ويرى الفقيه الدستوري (وأستاذ قيس سعيّد) أن الفصل الخامس خطير ويفتح الباب نحو المجهول من حيث تأويل القانون الوضعي بالنسبة للقضاء والإدارة والهيئات السياسية والأمنية، وكان من الأجدر عدم إدراجه في فصل دستوري لأنه لا ينسجم مع مبادئ الدولة الحديثة، حسب اعتقاده.
كما اعتبر أن الدستور الذي تم الإعلان عنه باطل لأن كل ما بني على منظومة 25 يوليو الانقلابية باطل، وفق قوله، مضيفاً: وهذا موقفي المبدئي الذي عبرت عليه سابقاً.
دستور 1959
على النقيض من عياض بن عاشور، قال الوزير الأسبق الصادق شعبان: إن مشروع الدستور شبيه بدستور 1959، وأكد، في تدوين على “فيسبوك”، أنه سيصوت عليه بـ”نعم”.
ويبدو أن ما كتبه شعبان عبّر فيه عن موقف سياسي لكونه من شخوص النظام الاستبدادي الأول قبل الثورة؛ حيث بدأ تدوينته بقوله: “كان عناد ثورة.. دستور 2014 كلفنا المليارات مباشرة وآلاف المليارات من جراء الفوضى وتعطل الدولة وانهيار الاقتصاد”.
وبعد عبارات التشفي من الثورة، يرى شعبان أنه نظام رئاسي؛ رئيس يضع السياسة العامة للدولة ويختار حكومة تساعده ومسؤولة أمامه، وبرلمان يراقب من خلال القوانين (يناقشها وقد يرفض التصويت عليها) ومن خلال الميزانية وبالأسئلة للحكومة وفي حالات قصوى توجيه لوائح اللوم.
وتابع: دسترة مكاسب المرأة التي حصلت في عام 2002 أعيدت بحذافيرها؛ أي كل حقوق مجلة الأحوال الشخصية، والعمل على تطويرها، وكذلك ضمان تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل عند التعيينات والسعي للتناصف في المجالس المنتخبة.
الإضافة هي هذه المحكمة الدستورية التي لن تكلف شيئاً للميزانية، حسب شعبان، لها اختصاص واسع، ليست محل تجاذبات حزبية، محكمة من 9 قضاة يجلسون بحكم صفتهم، سوف تباشر عملها فوراً إثر دخول الدستور حيز النفاذ، وكل من له قضية الآن ويرى أن القانون المطبق غير دستوري يمكنه الدفع بعدم الدستورية.
ولم يُخف شعبان انزعاجه من بعض ما ورد في دستور سعيد قائلاً: هذا المجلس الوطني للجهات والأقاليم (من 80 ممثلاً للجهات تقريباً) له اختصاص في مجال مخططات التنمية والميزانية، ولو أني لا أرى له فاعلية حقيقية.
ثم يقرر: من يقول: إن الدستور “داعشي” فهو إما جاهل بالقانون وإما حقود، ليس للتعبيرات التي خصصت للإسلام في التوطئة وفي المتن أي أثر مباشر على التشريعات، والدولة باقية مدنية لا ريب في ذلك.
ورداً على الصادق شعبان وعلى الدستور الذي شارك في صياغته الأولى، نشر أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ، عضو الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهوريّة جديدة، التي قدمت للرئيس سعيد مسودة الدستور، أغنية الفنان فرانسيس بيباي بعنوان “آغاتا”، على صفحته بـ”فيسبوك”.
وكتب محفوظ: “آغاتا لا تكذبي عليّ.. إنّه ليس ابني”، في إشارة على ما يبدو لعدم تبنيه لنسخة الدستور المنشورة بـ”الرائد الرسمي” التي كانت مختلفة عن النسخة التي قدمتها اللجنة الاستشارية للرئيس سعيّد، ورداً على ما وصفه البعض بتأبين الصادق شعبان لأحلامه بالعودة لنظام الاستبداد في عهد بن علي.
نظرة دونية للقضاء
رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي، ذكر في تعليقه على دستور الرئيس التونسي الحالي أن سعيداً أراد وضع نظرته الشخصية لا نظرة التونسيين حيال القضاء، التي اعتبرها نظرة دونية للقطاع وانتقاصاً من دوره وفاعليته في المجتمع.
وأضاف الحمادي، في تعليق له على مشروع الدستور الجديد أن باب “الوظيفة القضائية” فيه تراجع كبير عن الضمانات الكبرى التي تضمنها دستور 2014.
وشدد الحمايدي على أن القضاة سيواصلون تصديهم لكل محاولات الإخضاع والتوظيف السياسي، وستبقى سلطة مستقلة ومحايدة مهما كانت التسميات.
دولة إسلامية
أما رئيس معهد تونس للسياسة أحمد إدريس فيرى أن نص الدستور المقترح على الاستفتاء لا يدخل حيز التنفيذ إلا إذا تم التصويت عليه بـ”نعم”، وبعد تصريح الهيئة الوطنية المستقلة للانتخابات، مضيفاً أنه في صورة عدم قبوله لا يمكن أن يدخل حيز التنفيذ عكس ما ذهب إليه البعض.
وأضاف أحمد إدريس، في تصريح لوكالة “تونس أفريقيا للأنباء”، على هامش انعقاد الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل بمدينة الحمامات أن الفصل الخامس من الدستور سيستعمل للحد من الحريات باعتبار أنه لا يمكن فهم الفصول المتعلقة بالحرية في الدستور إلا بالعودة للفصل الخامس الذي ينص بالضرورة على الارتباط بمقاصد الإسلام، منبهاً من خطورة ذلك باعتبار أنه يؤسس لـ”دولة إسلامية”، حسب تقديره.
وأشار إلى أن نص الدستور الجديد يكرس النظام الرئاسوي الذي يتغول فيه الرئيس على بقية السلطات، حيث لا يمكن لأي سلطة محاسبة الرئيس باعتبار أنه يتمتع بكافة الصلاحيات، لافتاً إلى الاختلال الكبير في التوازن بين السلطات ودمج فيما بينها، وأن غياب الانتخاب المباشر للغرفة الأولى البرلمانية -حسب ما ينص عليه الدستور- يؤسس للنظام القاعدي الذي عبر العديد عن تخوفهم منه.