في الإجازة الصيفية يحرص أولياء الأمور على ملء أوقات فراغ أبنائهم بأنشطة مختلفة؛ بعضهم بالرياضة، وآخرون بالسياحة، وفريق بإعطاء نصيب للقرآن فيلتحق الأبناء بحلقات تحفيظ القرآن في المساجد سعيا لحفظ كتاب الله ونيل الثواب وتحصيل بركة القرآن الكريم، وانضماما لصحبة صالحة. وهذه النوايا الحسنة شيء جميل لا سيما إذا تزينت بمحاولة لفهم ما يتلى مهما كانت هذه المحاولة بسيطة أو مقتصرة على بعض المعاني التي يقصد منها توجيه حياة هذا الناشئ، وفق ما يريد الله تعالى.
ولكل متصل بالكتاب العزيز مقامه ومكانته؛ فالقارئ لمجرد القراءة وتحصيل أجرها له مقامه وأجره، والقارئ بنية التدبر له مقامه وأجره، ومن يتلو القرآن الكريم حق تلاوته له مقامه وأجره. ومنذ أن نزل القرآن الكريم وله أهله الذين سعوا لفقهه وانشغلوا بمعانيه، وحاولوا تسجيل هذه المعاني في دروس وعظية، وممن فعل هذا الإمام ابن الجوزي؛ فقد أكمل تفسير القرآن على منبر الوعظ أو من خلال كتب للتفسير تمثل شتى المدارس العلمية في الفكر الإسلامي، وعندما نطالع هذا الإنتاج الفكري الضخم الذي يدل على حب عميق لكتاب الله تعالى الذي سعى من أنتجه لتوسيع دائر الفهم والتدبر بين العلماء وطلبة العلم وعوام الناس أحيانا، كما فعل ابن الجوزي والشيخ الشعراوي.. عندما ننظر إلى هذا الإنتاج الفكري عبر القرون الطويلة وألوف الصفحات التي كتبت في التفسير لنرى نصيب أبنائنا الناشئة منه فقلما نجد شيئا.. لماذا؟ لأن البعض يرى هذه الفئة العمرية لن تتمكن من فهم تفسير القرآن.. فهل هذا التصور صحيح؟
إن مدارك الأبناء تتسع وتضيق بحسب ما قسم الله تعالى لها من الفهم، وبحسب محاولاتنا لتوسيع دائرة الفهم وطرح القضايا المهمة والصبر على التعليم وإشغالهم بالنافع المفيد.
وهل تحتاج هذه الفئة إلى عقد صلة بينها وبين القرآن غير صلة الحفظ والتجويد؟
حدثني أحد المحفظين أن الأولاد الذين يحضرون حلقة لتحفيظ القرآن في مسجده يلعبون أثناء أداء الناس لصلاة الجماعة، ويظلون يلعبون حتى تنتهي الصلاة، ومن ثم يدخلون إلى الحلقات مباشرة ليقوموا بحفظ المقرر عليهم، ثم ينصرفون مرة ثانية إلى اللعب أو إلى البيت!
إن انشغال الأولاد باللعب أمر طبيعي في هذه المرحلة العمرية لكن غير الطبيعي أن تجد بعض هؤلاء اللاعبين يحفظون قوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}، لكنه لم يفكر لا هو ولا من حفّظه في معنى كون الصلاة كتابا موقوتا، وما يلزم من كون هذا الناشئ طالبا في حلقة قرآنية من خلق وسلوك يفهمه إذا مر على قوله تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}؛ فلا يصح أن يخرج منه في صورة قول أو عمل ما يشير إلى الفحشاء والمنكر؛ بل أثناء انتظار بعض هؤلاء الطلاب لحلقاتهم قد تجد من يشاهد في هاتفه مقطع فيديو فيه موسيقى أو ما لا يتناسب مع حرمة المسجد، يفعل ذلك بينما ينتظر الصلاة، ومن بعدها حلقة تعليم القرآن؛ لذا كان لزاما على المهتمين بكتاب الله تعالى أن يوثقوا علاقة أبنائنا بالقرآن حفظا وتجويدا وفهما وسلوكا، لكن كيف نجعلهم يعيشون في رحاب القرآن، وكتب التفسير بعضها صعب، وبعضها يطرح قضايا لا تناسب أعمارهم؟ وليس كل من قام بتحفيظ القرآن يملك الدراية الكافية لتقديم تفسير للقرآن؛ فبعض المدرسين يسرفون في تخويف طلابهم من القيامة والموت والقبر حتى يصاب الأبناء بالرعب؛ ما يمنعهم من النوم بالليل، ويدفعهم إلى البكاء للحد الذي يلفت أنظار الوالدين؛ فيأتون في اليوم التالي ليشكوا المدرس إلى الإدارة أو يشتكوا إليه؛ فيقابلهم المدرس بغضب وحزن وغيرة على الدين وإنكار على هؤلاء الذين يريدون حجب الحقائق الدينية عن أطفالهم.
هل حقاً عرض المدرس على الأطفال الحقائق الدينية كاملة، أم ركز على جزء من الحقيقة؟
هل عرض لمظاهر رحمة الله تعالى وإمهاله للمخطئين وحثه تباركت أسماؤه المؤمنين على تصحيح أخطائهم بالتوبة؟
هل عرضوا الجنة بنعيمها وملذاتها وسعتها قبل أن يعرضوا النار؟
هل أفاضوا في شرح رحمة الله تعالى التي تسبق غضبه والتي وسعت كل شيء، وذكروا أوصاف من يستحق هذه الرحمة؟
هل ذكروا عفو الله تعالى عن المخطئين وتجاوزه عن المذنبين قبل أن يتحدثوا عن النار وحرها وغساقها وعذابها وما فيها من ضيق وعذاب مادي ومعنوي؟
الله تعال في كتابه الكريم يحمل عباده على الطاعة بجناحين هما: الترغيب والترهيب، فإذا ركزنا على الترهيب فقط انبنت الطاعة على الخوف، فإذا زال الخوف توقفت الطاعة، وإذا حصل اليأس توقفت الطاعة، وهذا خلاف منهج القرآن الكريم في التزكية الإيمانية.
إن هناك حقائق قد يصعب على بعض المدرسين إيصالها لعقول الطلاب ربما بسبب عدم تمكن المدرس من فهم الحقيقة القرآنية أصلا، لكن لهذه المشكلة حل وهو أن تعقد جلسة علمية بين المدرسين يختارون فيها الحقائق التي يريدون أن يوصلوها للطلاب، ويتناقشون فيما بينهم لاختيار أسلوب العرض الأمثل لهذه الحقائق.. لتكن هذه الجلسة جلسة مدارسة.
إن هذه الحقيقة تدفعنا إلى البحث عن مخرج من هذه الأزمة على مستوى المدارس القرآنية، وعلى مستوى إعداد تفسير قرآني للناشئة يتواءم مع اللغة التي يفهمونها، ويلبي التطلعات التي ترنو أبصارهم إليها، ويجيب عن الأسئلة التي تشغل بالهم. وأرى أن هذا العمل الضخم يحتاج إلى لجنة علمية مكونة من خبراء في عدة مجالات، مكونة من:
1- عالم في التفسير: يقدم خلاصة لما كتب في القديم والحديث من خلال المدارس العلمية المتعددة، على أن تشتمل هذه الخلاصة على أبرز القضايا المطروحة في الآيات الكريمة، واختيار ما يلائم المرحلة العمرية المختارة، ويجيب عن أسئلتها، ويدفعها على حسن استقبال آيات الله.
– لجنة للصياغة تتألف من: كاتب متخصص في المرحلة العمرية المختارة يراعي حاجاتها وقدراتها العقلية ويجيد مخاطبتها من خلال تجربته.
– مختص نفسي واجتماعي يعمل مع هذه الفئة.
وحتى ندرك أهمية وجود مختص في لجنة الصياغة أحكي هذه القصة: ماتت أم لطفلة، وشهدت الطفلة أمها وهي توضع في التراب بعد مدة اشتاقت البنت لأمها، فسألت أباها: لماذا لم تأت أمي؟ قال الوالد باكيا: أمك عند الله.
بعد أيام ذهبت الطفلة لمدرستها واستمعت لمعلمتها وهي تشرح درسا في العقيدة، وقالت المعلمة: “الله في السماء”، فاعترضت الفتاة بشدة، وقالت: “الله تحت الأرض”، حاولت المعلمة أن توضح، لكن الفتاة أصرت على قولها..
استدعت المعلمة والد الفتاة وأعلنته بالقصة، ففسر لها سبب إصرار ابنته..
فلا بد من إدراك التفاوت بيننا وبين الأطفال في التصور للقضايا والمواقف، وهذه الفجوة يسدها المتخصصون.
2- تعرض أعمال لجنة الصياغة على متخصصين في قسم التفسير ليتأكدوا من دقة العرض، وعدم مخالفته للقواعد العلمية المعمول بها في التفسير.
نحن بحاجة كبرى لنصل أبناءنا بحبال القرآن الكريم في هذه الأجواء المشحونة بالشبهات والشهوات، وتغييب الوعي ليستصحبوا معهم في رحلة الحياة كتاب الله؛ ليأنسوا به في خلواتهم، وينير لهم دروب الحياة {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].