شيئاً فشيئاً تقترب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المقررة في يونيو 2023م، بل يمكن القول: إن المشهد السياسي الداخلي يعيش حالياً جوَّ الحملات الانتخابية، بما في ذلك جدال المرشحين للانتخابات الرئاسية، ويختلف الكثيرون حول النتائج المحتملة لها، لكنهم يتفقون على أهميتها بل وربما استثنائيتها.
تتزامن الانتخابات المقبلة، عام 2023م، مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية (1923م)؛ ولذا فثمة رمزية لا تخفى، حيث يتحدث حزب العدالة والتنمية الحاكم عن «أهداف 2023»، وبعضُ أنصاره عن «الجمهورية الثانية»، بينما يريد حزب الشعب الجمهوري المعارض أن يعود للحكم في الذكرى المئوية لتأسيس مؤسسه (مصطفى كمال أتاتورك) الجمهوريةَ التركية.
أبعد من الرمزية، ثمة ما يجعل الانتخابات المقبلة أكثر أهمية من سابقاتها؛ ذلك أن الانتخابات السابقة أتت مباشرة بعد إقرار الانتقال للنظام الرئاسي، ولذلك فإن الانتخابات المقبلة ستكون بمثابة استفتاء على النظام الرئاسي بشكل عملي.
من جهة ثانية، تأتي الانتخابات في ظل وضع اقتصادي صعب داخلياً وعالمياً، سماته الأهم ارتفاع نسبة التضخم وغلاء الأسعار ولا سيما في ظل الحرب الروسية – الأوكرانية؛ ما يمنح المعارضة ورقة قوة في انتقاد الحكومة ويضع الأخيرة في وضع دفاعي سياسياً وعملياً.
ومن زاوية ثالثة، فهي تأتي في ظل حالة استقطاب غير مسبوقة في البلاد بين التحالفين القائمين، وفي سياق تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم، إضافة لتحدٍّ غير مسبوق للأخير وهو تشكّل أحزاب معارضة من قيادات سابقة فيه، وبالتالي قادرة على السحب من خزانه الانتخابي ورصيده الشعبي، وهو أمر لم يواجهه الحزب من قبل.
ولذلك، فليس من المبالغة القول: إن الانتخابات المقبلة مصيرية؛ فهي مصيرية لأردوغان والعدالة والتنمية اللذين يحكمان تركيا منذ عام 2002م، إذ في حالة خسارتهما قد يكون ذلك النهاية السياسية لهما أو لأحدهما وبدء حقبة سياسية جديدة في البلاد.
وهي كذلك مصيرية لزعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو؛ إذ إن فشله في الفوز هذه المرة رغم كل ما سبق من معطيات تقوّي يد المعارضة؛ قد يكتب نهاية مسيرته السياسية ويؤذن بانشقاقات جديدة في حزبه.
وهي مصيرية للأحزاب الصغيرة الجديدة وخصوصاً تلك التي خرجت من عباءة العدالة والتنمية، وأقصد هنا حزبَيْ «المستقبل» و«الديمقراطية والتقدم» بقيادة أحمد داود أوغلو، وعلي باباجان على التوالي، إذ إن فشلهما في دخول البرلمان والتحول لحالة سياسية قائمة قد يعني اختفاءهما عن الساحة السياسية ودوائر التأثير بشكل نهائي.
وهي مصيرية كذلك للحزب «الجيد»؛ إذ إن حساباته المتعلقة بـ«وراثة» زعامة التيار القومي في البلاد من زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي ستتعرض للخطر إذا لم تسر الأمور كما يريد، بل إنها مصيرية للتيار القومي برمته، خصوصاً ما يتعلق بتنافس الشخصيات القيادية عليه.
تحالفات سائلة
بدأت فكرة التحالفات الانتخابية مع الاستفتاء على النظام الرئاسي في أبريل 2017م، حيث اتضح في حينها أن النظام الرئاسي يجنب البلاد فكرة الحكومات الائتلافية لكنه لا يغني عن التحالفات، إذ ليس بمقدور أي حزب أو قائد سياسي أن يحصل بسهولة على نسبة «50% + 1» من أصوات الناخبين.
وعليه، تشكَّلَ مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عام 2018م تحالفان رئيسان؛ ضم الأول (تحالف الجمهور) حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، وضم الثاني (تحالف الشعب) أحزاب الشعب الجمهوري والجيد والسعادة والديمقراطي، وقد تنافس التحالفان في الانتخابات البرلمانية، بينما لم يفلح التحالف المعارض في التوافق على مرشح واحد في الانتخابات الرئاسية، وساهم تعدد المرشحين المعارضين فيها في فوز أردوغان من الجولة الأولى.
اليوم، وبعد سنوات من تلك المنافسة الانتخابية، تتعمق حالة الاستقطاب أكثر فأكثر في البلاد، لكن دون وضوح منظومة التحالفات بشكل راسخ وواضح؛ ذلك أن النظرة كانت في ذلك الوقت أن هذه التحالفات موعدها الانتخابات فقط وليست تحالفات سياسية طويلة الأمد، وهو ما أكده حزب السعادة نفسه في أكثر من مرة.
في المشهد الحالي، ما زال تحالف العدالة والتنمية مع الحركة القومية متماسكاً؛ لعل ذلك يرجع للتنازلات العديدة التي قدمها الأول للثاني في سبيل ذلك، أما تحالف المعارضة فغير واضح المعالم حتى اللحظة.
منذ نحو 9 أشهر، تجتمع 6 أحزاب سياسية متفقة على ضرورة العودة بالبلاد للنظام البرلماني وتتحاور وتنسق بينها، وهي الأحزاب الأربعة المشكّلة لتحالف الأمة إضافة لحزبَيْ المستقبل والديمقراطية والتقدم، ورغم ذلك لا تطلق هذه الأحزاب على نفسها اسم «تحالف الأمة»، وإنما «طاولة الستة» في إشارة إلى إطار تنسيقي بينها وليس إلى تحالف رسمي.
أكثر من ذلك، فإن السمة الأبرز مؤخراً بين هذه الأحزاب هي خلافاتها واختلافاتها، وليس المقصود هنا فقط اختلافاتها السياسية والأيديولوجية والتاريخية، فذلك مما هو معروف، وإنما خلافاتها حالياً كذلك، ومن مؤشرات ذلك تصريحات رئيس الحزب الديمقراطي التي استهدفت داود أوغلو، وباباجان؛ بسبب مناصبهما السابقة في الحزب الحاكم والحكومة رغم جلوسهما على نفس طاولة المعارضة اليوم، والخلاف بين جميع الأحزاب حول المعايير التي يفترض توفرها في المرشح التوافقي للمعارضة الذي سينافس أردوغان، وصولاً لإعلان أكثر من حزب نيته دخول الانتخابات بمفرده وليس تحت لافتة تحالف المعارضة.
ويمكن إضافة الخلاف بين الحزبين الأكبرين في المعارضة (الشعب الجمهوري، والجيد) حول اسم المرشح التوافقي المفترض، إذ يعارض الثاني بشكل واضح فكرة ترشح رئيس الأول وزعيم المعارضة كليتشدار أوغلو؛ ولذلك، فليس من الواضح حتى اللحظة ما إذا كانت أحزاب المعارضة قادرة على تقديم مرشح توافقي في الانتخابات الرئاسية أم ستعيد مشهد عام 2018م حين تقدم منها أكثر من مرشح.
بيد أن ذلك ليس المؤشر الوحيد على حالة السيولة في جبهة المعارضة؛ إذ إنه من الممكن جداً تشكل تحالفات أخرى؛ فثمة حديث عن إمكانية تحالف حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) مع بعض الأحزاب اليسارية، لكن الأهم هو احتمال حصول ذلك لدى الأحزاب اليمينية المحافظة.
ذلك أنه تدور في الآونة الأخيرة نقاشات ومناشدات بين أوساط الإسلاميين تدعو لخروج الأحزاب الثلاثة («السعادة»، «المستقبل»، «الديمقراطية والتقدم») من طاولة الستة وتركها التنسيق مع حزب الشعب الجمهوري الذي يُعَدُّ خصمها التقليدي وتشكيلها تحالفاً ثالثاً لا يتفق مع أردوغان لكنه لا يتنسق مع كليتشدارأوغلو، وتقول الفكرة: إنه يمكن لهذه الأحزاب الثلاثة الصغيرة أن تتفق مع أحزاب أخرى مثل «الرفاه مجدداً» بقيادة فاتح أربكان، نجل الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، وحزب «الدعوة الحرة» الكردي المحافظ، وربما يضاف لهم حزب «الاتحاد الكبير» القومي الإسلامي، ويبالغ البعض باقتراح حزب الجيد.
ولا حاجة هنا للقول: إن تشكل تحالف من هذا النوع قادر على خلط الأوراق السياسية والانتخابية في البلاد رأساً على عقب؛ ذلك أن هذه الأحزاب في معظمها صغيرة الحجم ضعيفة التأثير الآن وبشكل منفرد، لكن مجموعها قد يعني تحالفاً قوياً ولا سيما أن أغلبها أحزاب يمينية محافظة قادرة على السحب من رصيد العدالة والتنمية وتستطيع دعم فرص أي مرشح تدعمه في الانتخابات الرئاسية، ولعل هذا من ضمن أسباب انفتاح الرئيس التركي على الحوار مع هذه الأحزاب ومحاولة ضمها للتحالف الحاكم، باستثناء حزبي المستقبل والديمقراطية والتقدم حتى اللحظة.
أخيراً، ما زال مشهد التحالفات الانتخابية ضبابياً، وفيه الكثير من المرونة والديناميكية والسيولة، وهو مرشح للتبلور بشكل أوضح مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، لكن شيئاً واحداً يبدو مؤكداً حتى اللحظة، وهو أن منظومة التحالفات ستكون أحد أهم العوامل المؤثرة بشكل مباشر في نتائج الانتخابات المصيرية المقبلة في تركيا.