في لحظة صعبة على النفس يترك الخليل عليه السلام ولده الذي رزقه على الكبر وأم ولده في مكان ليس فيه من أسباب الحياة شيء ثم ينصرف تسأله هاجر إلى من تتركنا فيسكت ثم تسأله فيسكت ثم تسأله فيسكت ثم تقول له آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذا لا يضيعنا.
كم حجم اليقين في قلبها الذي يجعلها لا تنظر إلى أسباب الموت التي تحيط بها من كل جانب وتنظر إلى سعة رحمة الله تعالى إن ما معها من طعام وماء شيء يسير قربة فيها ماء وقليل من الطعام إن كفاها اليوم سينفد غداً أو بعد غدٍ ومع ذلك تقول بملء فيها إذا لا يضيعنا وإن لم تمت جوعاً وعطشاً فالمكان موحش يمكن أن تموت من الخوف أو يفترسها وصغيرها وحش من الوحوش.
“إذا لا يضيعنا” ترى لو غاب عنها هذا اليقين لحظة لهلكت ولو كان معها خزائن أطعمة الأرض وأسقيتها إن كثيرا ممن ملكهم الله تعالى وأعطاهم من نعمه من خوف الفقر في فقر ومن خوف المرض في مرض بينما كثير ممن ابتلاهم الله تعالى بمرض أو فقر أو غير ذلك من ألوان الابتلاء ينتظرون رحمة الله وفرجه في كل لحظة وقلوبهم مليئة بقوله عز وجل فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا من حكمة الله تعالى ان جعل الفرح والروح في الرضا واليقين وجعل الكآبة والضيق في السخط والشك فأهل اليقين هم أسعد الناس لثقتهم في ربهم الغني المغني الكريم الذي لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض تحركت أو سكنت وهو سبحانه وتعالى بخلقه عليم خبير لطيف ينزل البلاء ومعه اللطف فمن قوي يقينه نظر إلى اللطف الإلهي به ومن ضعف يقينه نظر إلى البلاء فرآه شديداً عسيراً.
هذا هو أثر اليقين في تخفيف مصائب الدنيا ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما: قَلَّ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ , وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ , وَمَنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا” إن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الدعوات في أغلب مجالسه المباركة دليل على رغبته صلى الله عليه وسلم في ترسيخ هذه الأدعية في نفوس أصحابه و دليل على أهميتها كذلك في تثبيت العبد المؤمن امام موجات البلاء.
وهذا اليقين الذي يحول بين النفس وبين الهلاك وأن تذهب حسرات نتيجة لمصيبة أو كارثة يأتي من التفكر في آيات الله تعالى ويأتي من التفكر في القصص القرآني والنبوي ويأتي من الاطلاع على أحداث التاريخ الإنساني والواقع الذي نعيشه عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ , قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْيَقِينَ كَمَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعْرِفُوهُ فَإِنِّي أَتَعَلَّمُهُ» [اليقين لابن أبي الدنيا] نتعلم اليقين ونعلمه أبنائنا ومن حولنا فهذا أحد العواصم من كيد شياطين الإنس والجن وأحد العواصم من السقوط في آبار اليأس العميقة وكلما تفكر الإنسان فيما ذكرناه ازداد يقينا بربه وقدرته وعلمه وحكمته
ومن ثمرات اليقين الغنى فإن الموقن بإن رزقه على الله هو وسائر ما يدب على الأرض لن يذل نفسه لمخلوق لأن الأرزاق والرزاق في السماء وليست في الأرض وما الناس إلا أسباب إذا انقطعت وصلها الله تعالى من سبيل آخر أما هم فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً قال سليمان الخواص:” الْغَنِيُّ حَقَّ الْغِنَى، مَنْ أَسْكَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ مِنْ غِنَاهُ يَقِينًا، وَمِنْ مَعْرِفَتِهِ تَوَكُّلًا، وَمِنْ عَطَايَاهُ وَقَسْمِهِ رِضًى، فَذَاكَ الْغَنِيُّ حَقَّ الْغِنَى وَإِنْ أَمْسَى طَاوِيًا وَأَصْبَحَ مُعْوِزًا”. [اليقين لابن أبي الدنيا]
إن اليقين من أكبر المحفزات على العمل فإذا أيقن المسلم بما اعده الله تعالى للصالحين من جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تحركت همته لطلب هذه الجنة وقويت نفسه على العمل الصالح ودفع الكسل وتجاوز العقبات التي من داخل نفسه والتي من خارجها وإذا أيقن المسلم بما أعده الله تعالى للعاصين من عذاب توقف عشرات المرات قبل أن يقع فيما يجلب له غضب الله تعالى ومقته وإذا زلت قدمه سارع إلى التوبة والإصلاح
إذا أيقن المسلم في لقاء الله تعالى أعطى الحق الذي عليه كاملا غير منقوص وأخذ الحق الذي له دون زيادة وأنصف الناس من نفسه فلا يبخسهم أشيائهم ولا مواهبهم ولا ينتقص من قيمتهم ليعلي من قيمة نفسه
إذا أيقن المسلم بحسن الجزاء من الله تعالى عمل الخير دون أن ينتظر من الناس جزاءً ولا شكورا فربه تعالى هو الشكور الذي يبارك في صدقة تبلغ نصف تمرة حتى تصير مثل جبل أحد ولا يمنعه ذلك أن يطالب بحقه ويصبر على مطالبته وهو على كل حال يؤدي واجبه طاعة لله تعالى ويقينا بما عنده
إذا ايقن المسلم بحسن عاقبة الصبر الإيجابي صبر وصابر واستكان لأمر الله تعالى وفر من قدر الله إلى قدر الله وهذا اليقين يعطيه طمأنينة يتدارك بها نفسه من الجزع والهلع يعمل للخروج من أزمته وكله تفاؤل في قرب فرج الله تعالى ورحمته، قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «يَا بُنَيَّ الْعَمَلُ لَا يُسْتَطَاعُ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَمَنْ يَضْعُفْ يَقِينُهُ يَضْعُفْ عَمَلُهُ»[ اليقين لابن أبي الدنيا]
يبدوا نور اليقين في الشدائد للمؤمنين أما في حال العافية فالناس يتساوون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حصلت الردة وهوجمت المدينة وخاف الناس لكن الصديق رضي الله عنه أخرج جيش أسامة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم والناس تتعجب وتطلب من الصديق أن يبقي جيش أسامة في المدينة فقد كشر أهل الضلال عن أنيابهم لكن يقينه في أن الخير في تنفيذ ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كفى المسلمين شروراً كثيرة تحرك جيش أسامة فلم يره أحد إلا وأيقن أن المسلمين أقوياء إذ كيف يخرجون مثل هذا الجيش ونبيهم قد توفى والعرب مستعدون للهجوم فإذا مر الجيش على قوم قد لعب الشيطان برؤوسهم وسول لهم الهجوم على المدينة والخروج عن سلطان الخليفة خافوا وتراجعوا.
إِنِّي وَمَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ … الطِّبَاقَ وَمَنْ بَرَانِي
أَدْعُو وَمَا تُحَرَّكَ يَدَايَ … إِذَا دَعَوْتُ لَا يَنْسَانِي
إِلَّا بِقَلْبٍ مُوقِنٍ … إِنَّ الَّذِي أَدْعُو يَرَانِي
فَيَرَى وَيَسْمَعُ مَا أَقُولُ … فَإِنْ وَثِقْتُ بِهِ كَفَانِي “
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَقِينَ الصَّادِقِينَ، وَصِدْقَ الْمُوقِنِينَ، وَعَمَلَ الطَّائِعِينَ، وَخَوْفَ الْعَامِلِينَ، وَعِبَادَةَ الْخَاشِعِينَ، وَخُشُوعَ الْعَابِدِينَ، وَإِنَابَةَ الْمُخْبِتِينَ، وَإِخْبَاتَ الْمُنِيبِينَ، وَإِلْحَاقًا بِرَحْمَتِكَ بِالْأَحْيَاءِ الْمَرْزُوقِينَ”.